باراك أوباما والشهرة: الفصل السابع من كتاب لوغاريتمات الشهرة

عمرو منير دهب

يقول باراك أوباما في كتابه Dreams from My Father: A Story of Race and Inheritance، النسخة العربية بعنوان “أحلام من أبي: قصة عِرْق وإرْث” عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (كلمة) وكلمات عربية للترجمة والنشر بالقاهرة سنة 2009، يقول في مقدمة طبعة 2004 من الكتاب: “أدرت مشروعاً لتسجيل الناخبين في دورة انتخابات عام 1992 م، وبدأت العمل محامياً في مجال الدفاع عن الحقوق المدنية، وشرعت أدرس مادة القانون الدستوري في جامعة شيكاغو. واشتريت أنا وزوجتي منزلاً، ورزقنا بطفلتين رائعتين ومشاغبتين تتمتعان بصحة جيدة، وكنا نجاهد لدفع تكاليف معيشتنا. وعندما أصبح أحد المقاعد في المجلس التشريعي في ولاية إلينوي شاغراً عام 1996م، أقنعني بعض الأصدقاء أن أرشح نفسي، وبالفعل فزت بالمقعد. حذرني البعض قبل أن أشغل المنصب من أن السياسات داخل الولاية تفتقد إلى البريق الذي يشع من نظيرتها في واشنطن، فالمرء يكدح لكن وراء الستار، وغالباً في موضوعات تعني الكثير للبعض ولكن رجل الشارع يمكنه أن يغض طرفه عنها دون أن يشوب تصرفه هذا شائبة (مثل اللوائح المتعلقة بالمنازل المتنقلة، أو التداعيات الضريبية لانخفاض قيمة معدات الزراعة)”.

نرشح لك: موهبة الشهرة.. الفصل الخامس من كتاب لوغاريتمات الشهرة

بالوقوف على عبارة “حذرني البعض قبل أن أشغل المنصب من أن السياسات داخل الولاية تفتقد إلى البريق الذي يشع من نظيرتها في واشنطن”، لا يمكن تجاوز حقيقة أن السياسي تعنيه الشهرة، وذلك بصرف النظر عن حجم الشهرة (الكم) وطبيعتها (الكيف) اللذين يختلفان بحسب ميول واستعداد وطموح كل سياسي، خاصة لدى ذلك القطاع من السياسيين الذين يعملون في الخطوط الأمامية لـ”خدمة العملاء” – من جماهير أي شعب – في مواقع لا تبدأ قطعاً بالفوز بمقعد في المجلس التشريعي لأية ولاية أو محافظة ولكنها تبلغ ذروتها قطعاً برئاسة أكبر دولة في العالم.

ما مضى على سبيل وقفة عابرة لما يمكن أن يكون قد اعتمل في وجدان باراك أوباما تجاه الشهرة في مجال السياسة، وذلك عبر جملة مقتطفة من مقدمة سيرته الذاتية. وبالرجوع إلى تجربة سلفه بيل كلينتون، فإن سيرة الأخير مع الشهرة تبدو متميزة بدورها وحافزة على التأمل، فقد قال عنه البعض مرة (بعض خصومه على الأرجح) إنه يكون عادة في أفضل حالاته عندما يواجه الجمهور ويجد نفسه محاطاً بالأضواء. ذلك توصيف دقيق للسياسي المتطلّع إلى الشهرة والذي بإمكانه أن يكون مشهوراً. وقد خيّب كلينتون ظنون بعض خصومه (ربما تحديداً منافسه المرشح الجمهوري جورج دبليو بوش الأب) خلال الانتخابات الرئاسية لعام 1992 حينما قيل عنه إنه يبدو كصاحب بقالة صغيرة يطمح مرة واحدة إلى أن يمتلك سلسلة ضخمة من محلات السوبرماركت أو المتاجر متعددة الأقسام Department Stores، وذلك إشارة إلى حجم ولاية أركنساس – التي كان كلينتون محافظاً لها – ليس فحسب قياساً إلى الولايات المتحدة الأمريكية بأسرها وإنما قياساً إلى الولايات منفردة بصفة عامة.

على صعيد الشهرة الطموحُ ليس عيباً، بل هو ضرورة خاصة لمن يولد وليس في فمه ملعقة من ذهب الشهرة، وفي مقامنا هذا فإن الوصف الأخير ينطبق مثلاً على جورج بوش الابن الذي وجد طريق الرئاسة ممهداً، وذلك قياساً بما كان على بيل كلينتون وباراك أوباما أن يبذلاه من الجهد لبلوغ المنصب ذاته خلال حقب مختلفة – وإن تكن متقاربة زماناً – من مسلسل سباق الرئاسة الأمريكية.

وإذا كان الطموح للشهرة ليس عيباً، فمن باب أولى أن تكون الشهرة نفسها ليست عيباً، سواءٌ جاءت بعد عناء شديد أو قُدّمت للمشهور على طبق وملعقة من ذهب. ذلك في كل مجال، وليس ثمة ما يجعل السياسة استثناءً عدا ما يمكن أن يكون مشيناً من أسباب الشهرة، ولا أظن أن سياسياً يعمد عمداً إلى أن يشتهر بما هو مشين، هذا مع ضرورة تذكّر النسبية في تعريف المشين والمشرّف على كل صعيد، وعلى صعيد السياسة بشكل بالغ الخصوصية.

بالعودة إلى سيرة باراك أوباما مع الشهرة بصفة عامة، وليس في المجال السياسي تحديداً، نقرأ في بداية مقدمة طبعة عام 2004 التي أشرنا إليها قوله: “مر ما يقرب من عقد من الزمان منذ نُشر هذا الكتاب للمرة الأولى. وكما أذكر في التمهيد الأصلي، تسنت لي فرصة تأليف هذا الكتاب وأنا في كلية الحقوق بعد انتخابي أول رئيس أمريكي من أصل إفريقي لمجلة هارفرد لو ريفيو. ففي أعقاب نيلي نصيباً متواضعاً من الشهرة تلقيت عرضاً من أحد الناشرين وحصلت منه على دفعة مقدمة من مبلغ التعاقد، وبدأت العمل وأنا أؤمن أن قصة عائلتي، ومحاولاتي لفهم تلك القصة، قد تخاطب بصورة ما صدوع العنصرية التي كانت سمة التجربة الأمريكية، وأيضاً حالة الهوية غير الثابتة – القفزات عبر الزمن وتصادم الثقافات – التي تمثل سمة حياتنا العصرية”.

يواصل أوباما بعدها إلى حيث نرى كيف أن رجلاً قد يتوقع الشهرة في مجال فتخضع له في مجال غيره يختلف جزئياً أو كليّاً: “وعلى غرار من يؤلف كتاباً للمرة الأولى غمرتني مشاعر الأمل واليأس فور نشر الكتاب، أمل في أن يحقق الكتاب نجاحاً يتجاوز ما يجول في أحلامي الشابة، ويأس من أن أكون قد فشلت في أن أقول شيئاً كان ينبغي أن أقوله. أما الحقيقة فكانت تقع في مكانة بين هذا وذلك؛ فجاءت المقالات النقدية عن الكتاب إيجابية شيئاً ما، وكانت الجماهير تحضر بالفعل الندوات التي نظمها الناشر وتجري فيها قراءة أجزاء من الكتاب. لم تكن المبيعات مبهرة. وبعد بضعة أشهر مضيت قدماً في حياتي المهنية وكلي ثقة بأن مستقبلي في تأليف الكتب سيكون قصيراً، لكني كنت سعيداً بأني خضت تلك التجربة وخرجت منها دون مساس بكرامتي”.

انصرف أوباما إلى غير الكتابة، غير أنه كما بدا لاحقاً قنص شهرته من أرفع أبواب السياسة العالمية شأناً وليس عبر تخصصه الأكاديمي في القانون وممارسته العملية للمحاماة. أما الكتابة، التي يبدو من خلال كلماته السابقة أنه كان يطمح إلى الشهرة من خلالها، فلم تكن مسيرته فيها كما تنبّأ قصيرة وإنما ممتدة ولكن بنصيب متواضع لا يتجاوز بضعة كتب صدرت بعدها في الأعوام 2006 و2010 و2020، وهي تتراوح بين أدب السيرة الذاتية والرؤى الشخصية في السياسة والحياة.

بعيداً عن الذيوع الجماهيري، فإن منزلة الكاتب لا يحددها عدد الكتب التي ألّفها ولا طبيعة المواضيع التي يتناولها وإنما قيمة ما يكتب من الناحية الفنية الصرفة. وبرغم أن عملية تحرير الكتب في الولايات المتحدة الأمريكية عملية بالغة التعقيد بحيث يكاد يكون بعض الكتب من عمل المحرر بصورة شبه كاملة، خاصة عندما يكون المؤلف الذي يُنسب إليه الكتاب شخصية مرموقة، فإن التعليقات التي كُتبت حول كتب أوباما (خاصة أحلام من أبي) من قِبل المتخصصين لا تُثني فحسب على تجربة الكتاب بصفة عامة وإنما على عمل أوباما بوصفه مؤلفاً بشكل خاص، ما يشي بأنه كان بإمكان أولئك المعلقين والنقاد استخلاص تجربة أوباما الفنية في الكتابة وتقييمها بعيداً عن إضافات أو تعديلات العمل التحريري التي يمكن أن يستنتجها ويحزر مواضعها المعلقون والنقاد المحترفون.

مهما تكن موهبة باراك أوباما في الكتابة، أو حتى في المحاماة مجال تخصصه الأكاديمي وممارسته العملية الأساس، فإن ما دان له من الشهرة كان بسبب السياسة وليس الكتابة أو المحاماة. هذا عن مجال الشهرة (الكيف)، أما حجمها (الكم) فلم يكن من خلال مقعد في المجلس التشريعي في ولاية أكثر صخباً من إلينوي وإنما عبر أرفع منصب سياسي في الدولة التي تقود العالم، إذا كان لا مناص من نسبة قيادة العالم إلى دولة واحدة بعينها. وهكذا، فإن “الأحلام الشابة” قد تمنّي صاحبها بالصيت الذائع عبر مجال أو أكثر، بينما الشهرة تنتظره ليقنصها أضعافاً مضاعفة في غير ما يحسبه هو ويحسبه المقربون حوله من المجالات.