عمرو منير دهب يكتب: مصر والبحر الأبيض المتوسط

يقول طه حسين في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، نقلاً عن نسخة حديثة صادرة عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بالقاهرة سنة 2014، يقول: “العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط. ولسنا في حاجة إلى أن نقيم الأدلة على شيء من هذا، فهذا كله أيسر من أن يحتاج إلى أن يُقام عليه الدليل، والتلاميذ عندنا يتعلمونه في مدارسهم والكتب التعليمية اليسيرة تذيعه لمن شاء أن يظهر عليه. وهناك شيء آخر ليس أقل من هذا يسراً ولا وضوحاً، وهو أن تبادل المنافع بين العقل المصري والعقل اليوناني في العصور القديمة قد كان شيئاً يشرف به اليونان، ويتمدحون به فيما يقولون من شعر، وفيما يكتبون من نثر، فمصر مذكورة أحسن الذكر في شعر القصاص اليونانيين، وهي مذكورة أحسن الذكر في شعر الممثلين اليونانيين، ثم هي مذكورة أحسن الذكر عند هيرودوت وممن جاء بعده من الكتّاب والفلاسفة”.

قبل أن نواصل الاقتطاف على هذا الصعيد عن كتاب طه حسين المؤثر والصادر عام 1938، نعود إلى مصدر كنا قد أخذنا عنه في مقام قريب، وهو كتاب The Mysteries of Egypt: Secret Rites and Traditions لِلويس سبينس Lewis Spence ، نقلاً عن النسخة العربية بعنوان “أسرار مصر: الشعائر والطقوس السرية” الصادرة عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة عام 2012. يبدأ سبينس بهيرودوت عند حديثه عن “المصادر النصية التي تصف الأسرار المصرية” فيقول: “ولنبدأ بـ هيرودوت (484 – 406 ق.م) ذلكم الفيلسوف والمؤرخ الذي يخبر عن نفسه إنه استنبط الأسرار المصرية بوازع شخصي ورؤية خاصة به، ونراه يذكر تلك الأسرار برؤية تحمل حذراً بالغاً، بل تكاد يحدوها خوف من كشف غياهب تلك الأسرار”.

نرشح لك:عمرو منير دهب يكتب: سحر الشرق المصري

هكذا إذن نقع على ما يؤيد كلام طه حسين في كتاب لويس سبينس المرجعي. وإذا كان المؤرخ اليوناني الشهير معروفاً لدى المصريين والعرب بالكلمة الذائعة المنسوبة إليه عن أن مصر هبة النيل، فإن هيرودوت لا يبدو من كلام سبينس مجرد شاهد على فضل النيل على الحضارة المصرية، بل أكثر من ذلك مبجّلاً لتلك الحضارة إلى حدود الشعور بالرهبة أمام بعض – أو ربما كل – أسرارها، وهو ما يؤيد كلام الدكتور طه حسين عن إجلال اليونانيين للحضارة المصرية القديمة.

يواصل طه حسين بهدوئه الذي لم يكن يفارقه عادة حتى وهو يعرض لأكثر القضايا حدة وسخونة: “ومن الحق أن نعترف بأن مصر لم تنفرد بالتأثير في حياة اليونان، ولا في تكوين الحضارة اليونانية والعقل اليوناني، وإنما شاركتها في ذلك أمم شرقية أخرى، كان لها حظ موفور من الحضارة والرقي، وهي هذه الأمم التي كانت تعمر هذا الشرق القريب. هذه الأمم التي كانت كمصر مهداً للحضارة في حوض البحر الأبيض المتوسط. وكما أن اليونان يعرفون الفضل لمصر في تكوين حضارتهم، فهم يعرفون الفضل للكلدانيين وغيرهم من هذه الشعوب الآسيوية التي تأثرت بالبحر الأبيض المتوسط”.

الجملة الأخيرة بالغة الدلالة في الإشارة إلى ما سنعرض له الآن حول طبيعة علاقة مصر بالبحر الأبيض المتوسط، ولكن ربما على عكس ما كان يريده طه حسين، فتأثير المتوسط قد امتد شرقاً حتى طال الكلدانيين على بعد ما بينهم وبين اليونانيين قياساً بمصر والمصريين، وعليه فإن التأثير – مهما يكن متبادلاً ومهما يبلغ من الدرجة – لا يقوم وحده دليلاً بالضرورة على اشتراك المؤثِّر والمتأثِّر في نطاق مجموعة واحدة جغرافياً أو عرقياً أو حتى ثقافياً، قدرَ ما يدلّ على عمق صلة أحدهما بالآخر على هذا النطاق أو ذاك في أي من مراحل العلاقة التاريخية التي تربط البلدين.

لا يمكن القول بأن الكلدانيين – فقط على سبيل المثال الذي اختاره طه حسين – قد تأثروا بالمتوسط على نحو ما تأثر به المصريون الأكثر متاخمة للبحر وللثقافة المنسوبة إليه، كما لا يمكن القول بأن تأثير المتوسط على مصر نفسها قد امتد طوال تاريخها – حتى القديم – بنفس الدرجة.

طه حسين يدرك ذلك إذ يقول وهو يشير إلى حقب بعينها من التاريخ القديم المشترك بين البلدين: “كان العقل المصري إذن أيام الإسكندر مؤثراً في العقل اليوناني متأثراً به، مشاركاً له في كثير من خصاله إن لم يشاركه في خصاله كلها. فلما كان فتح الإسكندر للبلاد الشرقية، واستقرار حلفائه في هذه البلاد، اشتدّ اتصال الشرق بحضارة اليونان، واشتد اتصال مصر بهذه الحضارة بنوع خاص، وأصبحت مصر دولة يونانية أو كاليونانية، وأصبحت الإسكندرية عاصمة من عواصم اليونان الكبرى في الأرض، ومصدراً من مصادر الثقافة اليونانية للعالم القديم، بل أعظم مصدر لهذه الثقافة في ذلك الوقت”.

هذا عن علاقة مصر باليونان، ولكن البحر المتوسط ثقافة لم يكتبها اليونان وحده، فروما القديمة فاعلة على هذا الصعيد بدرجة عظيمة، وارتباطها هي الأخرى بمصر تاريخياً معروف، ولكن أيضاً ليس بما يجعل مصر جزءاً من الثقافة الرومانية أو حتى امتداداً لها من حيث التأثير والتأثر. عن ذلك التأثير، ليس فيما يخص مصر وحدها وإنما اليونان كذلك، يقول طه حسين: “ثم خضعت مصر لسلطان الروم فلم يمنعها ذلك من أن تظل ملجأ للثقافة اليونانية طوال العصر الروماني، كما أن خضوع بلاد اليونان نفسها لسلطان الرومان لم يجردها من يونانيتها، وإنما فرض هذه اليونانية على الرومانيين أنفسهم”.

ظلّ طه حسين خلال كتابه الهام هذا شديد الحماسة ليس فقط انحيازاً للانتماء المصري نحو المتوسط أو اليونان، وإنما كذلك نحو الغرب بصفة عامة على حساب الانتماء المصري إلى الشرق، وهو ما سنقف عنده بشيء من التفصيل في مقام قريب إن شاء الله.

ولكن مثلما أن البحر الأبيض المتوسط ثقافة لم ينفرد اليونانيون في الشق الغربي بكتابتها في حقبة أو بضع حقب بعينها، فإن مصر ليست بطبيعة الحال الإسكندرية وحدها وإنما امتداد جغرافي يكاد لا ينقطع – على شاطئ النيل بصورة أساسية – من أقصى الشمال (الذي تمثّله الإسكندرية) إلى أقصى الجنوب. وأكاد أقول من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال عندما أتذكّر أن مركز الثقل الأثري – ليس في مصر وحدها وإنما حتى عالمياً رجوعاً إلى بعض المقاييس – هو ذلك الجنوب القصي من وادي النيل المصري. بأخذ ذلك في الاعتبار سيكون من غير الدقيق الإفراط في إعلاء شأن الارتباط المصري بالبحر الأبيض المتوسط على حساب مكوّنات مصر الثقافية الأخرى بالغة الثراء بكافة أبعادها الجغرافية والعرقية والعقائدية والفكرية وغيرها.

عند الحديث عن المتوسط في عصرنا هذا، فإن ما انضاف إلى حوضه شمالاً وجنوباً (غرباً وشرقاً بالمفهوم الأيديولوجي) من الدول التي باتت مؤثرة – وبعضها بات من الأشدّ تأثيراً في العصور اللاحقة لتسيد الحضارتين اليونانية والرومانية حتى العصر الحديث – ليس بالقليل. لن يكون ممكناً إذن تجاهل فرنسا وإسبانيا وتركيا، بل حتى إيطاليا بتكونها وثقلها الحديثين بعيداً على نحو ما عن تداعيات الإمبراطورية الرومانية القديمة، ذلك بالإضافة إلى قرابة العشرين دولة أخرى باتت تشكّل رسمياً دول البحر الأبيض المتوسط – وهي ليست سوى الدول المطلة عليه من قارات العالم الثلاث المتاخمة – وفق التاريخ السياسي الحديث.

في النسخة العربية من موسوعة ويكيبيديا: “أندورا، الأردن، البرتغال، سان مارينو، مدينة الفاتيكان، مقدونيا وصربيا… على الرغم من أن هذه البلدان لا تقع على حدود البحر، فإنها غالبا ما تعتبر من بلدان البحر الأبيض المتوسط بمعنى أشمل نظراً لمشاركتها بمناخ البحر الأبيض المتوسط وحيواناته ونباتاته، وروابطهم الثقافية مع البلدان المتوسطية الأخرى”. بتأمّل هذه الإشارة الطريفة والعميقة، يحق لمصر أن تشير بكثير من الاعتزاز إلى انتمائها المتوسطي ببعديه الجغرافي والتاريخي وبما يتضمنه هذان البعدان من انعكاسات في التأثّر والتأثير على كافة الصعد الإنسانية، ولكن قطعاً ليس بما يذهب بهذا الانتماء أبعد من مداه المحدود نسبياً في حياة المصريين التي لم ينفرد بتشكيلها بُعد واحد بأية حال. ذلك مع انتباه شديد إلى خصوصية تأثير البعد العربي الإسلامي الذي ظل فاعلاً بشكل رئيس في الشخصية المصرية لأكثر من ألف عام متصلة كما سنرى بتفصيل أدق قريباً بإذن الله.

للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي: ([email protected])