"صالة أورفانيللي".. تحف أصلية وشخصيات "فالصو"

 

محمود عبد الشكور

لا تكون الروايات جيدة فحسب برسم تفاصيلها، وملامح شخصياتها، وإتقان حبكتها، إذا كان قانونها هو الشكل الكلاسيكي متقن الصنع، ولكنها تكون جيدة أيضا بمغزاها ودلالاتها، وبامتزاج هذا المغزى بالبناء والتفاصيل، فكأنه ينتج عنهما، وكأن هذه التفاصيل مرآة عاكسة لهذا المغزى.

يتحقق هذا المعيار للجودة إلى حد كبير في رواية “صالة أورفانيللي” للروائي أشرف العشماوي، والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية. أراه هنا وقد قطع شوطا كبيرا في إحكام حرفة السرد، وبناء الحبكة، وأراه أيضا وقد عمل، بشكل جيد ومشوق، على عدد كبير من الشخصيات، وعلى فترة زمنية طويلة، كما أنه رسم ببراعة تفاصيل عالم المزادات، الذي لا نعرف عنه الكثير، ونجح في توظيف هذه التفاصيل في إطار بناء متماسك، رغم عدد صفحات الرواية الذي يتجاوز 400 صفحة.

نرشح لك: “صالة أورفانيللي”.. رواية جديدة لـ أشرف العشماوي

لكن نجاحه الأكبر في رأيي في عدم إفلات الفكرة المحورية، التي تحقق هدفا مزدوجا ولامعا، فصالة المزادات التي تدور حولها الأحداث والصراعات، ليست في جوهرها سوى مرآة عاكسة، أولا لأطماع ونقاط ضعف النفوس البشرية، وثانيا هي مرآة عاكسة للتغيرات التي حدثت في المجتمع المصري، قبل وبعد هذا العام الفارق (1952)، وتحديدا منذ سنوات ما بين الحربين العالميتين، وحتى العام 1972.

والحقيقة أنه كان يمكن مد الرحلة إلى نهاية عصر السادات أيضا، لكي تتضح تناقضات المجتمع بشكل أكبر، ولكن ما قدمته الرواية، مع ذلك، دال وذكي وملموس، وكأننا أمام مزيج مفعم بالصراع، تحركه نقائص البشر، وتزيده اشتعالا تحولات مجتمعية واقتصادية عاصفة، وفي الحالتين نحن أمام عمليات بيع وشراء لا تتوقف، سواء للقطع والمنقولات في صالة المزاد، أو للأفراد وللبشر في ساحة الحياة، كل شيء معروض وله ثمن، سواء داخل الصالة أو خارجها.

يفترض أن صالة “أورفانيللي ومنصور” تعرض قطعا أصلية، ولكننا سنكتشف غير ذلك بمرور الوقت، وسنكتشف ما هو أخطر، وهو أن الشخصيات نفسها “فالصو” على المستوى الأخلاقي، بدرجات متفاوتة، ومن زوايا متنوعة، ولا توجد قطع “فالصو”، بدون شخصيات “فالصو”.

هذه الشراكة بين المصري المسلم منصور حامد التركي، والمصري اليهودي أورفانيللي إستيفان ألفيزي، وهما موظفان بسيطان يعملان في أرشيف وزارة التجارة، بدأت بالنصب واللعب، ثم تعقدت العلاقة ليكون النصب والخداع على نطاق أكبر من خلال الصالة، ثم سرعان ما نكتشف أن هناك نصبا وخداعا وفسادا على مستوى أكبر، سواء على مستوى المحيطين بالملك فاروق مثل حسن الكردي وبوللي، أو على مستوى رجال العهد الجديد بعد 1952، حيث فساد مزادات بيع تحف الأسرة المالكة، وحيث صعود شخصيات كريهة، أبرزها في الرواية شخصية الضابط أحمد العيسوي. يبدو في النهاية أننا بالفعل أن الدنيا في المحروسة قد صارت مزادا كبيرا، رغم أن الصراع في مستواه الخاص على امتلاك الصالة الشهيرة.

هي إذن دائرة محكمة تدور بلا توقف، وقودها طمع الشخصيات، وطمع أكبر يمزج بين الثروة والسلطة، ولذلك يتخذ السرد شكل الدائرة عبر شخصيات ثلاث: أورفانيللي، ومنصور، ثم أورفانيللي منصور، والثالث هو ابن أورفانيللي الذي سماه اسما مركبا، بحيث يجمع بين اسمه واسم شريكه منصور، وقد صار أورفانيللي منصور بالفعل مزيجا بين أسوأ ما في والده اليهودي، وأسوأ ما في شريكه منصور المسلم، وسيكون حلم منصور أورفانيللي أن ينتزع ملكية صالة المزادات الشهيرة كاملة، وأن ينتقم مما حدث لوالده الراحل، بسبب شريكه منصور التركي.

لكن أصوات الساردين الثلاثة، التي تدهشنا بالحيل والمفاجأت والمؤامرات، سرعان ما تأخذنا الى دائرة العبث بظهور الموت، فكأن الجميع يلعبون ويتصارعون، ثم يأتي القدر ليسخر منهم، هي إذن لعبة عبثية تماما، رغم انتصاراتها الصغيرة، ورغم تفاصيلها المعقدة، وهي أيضا أصوات محكوم عليها دوما بالخسارة، رغم مكاسبها الوقتية، الحياة نفسها تبدو مثل قطعة نراها ثمينة، وقبل أن نحصل عليها في المزاد، تتم مصادرتها، يزايد الكل عليها، ولكنهم يفقدونها قبل أن يشير صاحب المزاد بعصاه على الفائز.

هنا أيضا زاوية ذكية تتجلى في البناء، مثلما تتجلى في نهاية كل فصل، ورغم أننا نتقدم مع كل سارد في الزمن، إلا أننا واقعيا نعود إلى نفس النقطة العبثية، هذه الشخصيات “الفالصو” والتي اعتمدت الغش والكذب عنوانا لحياتها ولمهنتها، جديرة بطمعها، وجديرة بقدرها المسيطر، تستحقه بامتياز، أما الصالة نفسها فلن نعرف مصير ملكيتها النهائي، هي مفتوحة لمزيد من المتصارعين عليها، مجرد ساحة تنعكس عليها أطماع متجددة، وعصور متقلبة لا يتوقف فيها البيع ولا الشراء.

حكايتان قصيرتان جدا توضحان لنا مفاتيح الأب والابن: حكاية أورفانيللي الأب عما يعنيه اسمه باعتباره يمثل “الحياة كما يريدها”، أو باعتبار”أورفانيللي” أسطورة عن اسم لطائر بريء صداح، يخدعه الذئب، فيأكله، ويأكل أسرته بسهولة، وهو ما يحدث معه بالفعل، وحكاية أورفانيللي منصور الابن، عن ذلك الطماع الذي أراد أن يحصل على أسماك البحار كلها، فلم يحصل إلا على أسماك ميتة في الصحراء، بعد أن جف ماء البحر، وهذا بالضبط حصاد رحلة الابن، أما منصور التركي، فقد صار مولعا بالأشياء، حتى صارت تدل على سيرته بعد موته: سقوطه بدأ مع الوصول الى الملك فاروق، وسيموت بمسدس الملك، وحياته كانت في الصالة، ولذلك سيقتل فيها، ومحاولته أن يكون حقيقيا وصادقا مع ابن شريكه، ستفشل أيضا، فلا يمكن أن تكون صادقا مرة ، بينما حياتك كلها مزيفة وكاذبة.

هكذا تعمل الفكرة على مستوى التفاصيل الواقعية، والرموز الصغيرة، مثلما تعمل على مستوى البناء، واختيار الأصوات، وطريقة السرد، فيتحقق نضجا واضحا، يأخذ النص إلى آفاق أوسع، وهكذا أيضا نعرف البشر، مثلما نعرف المهنة وألاعيبها، ونعرف الزمن والعصر، مثلما نعرف النفوس والعقول، ونعرف قبل كل شيء أنه من المستحيل أن نعيش الحياة كما نريدها بالضبط.
لعل أفضل ما تقدمه هذه الرواية أنها تذكرنا بأن القيمة في الإنسان، وليست في الأشياء، مهما كانت، فإذا صار الإنسان بمثل ما رأينا من شخصيات الرواية، فلا قيمة ولا معنى ولا ربح على الإطلاق.

ولعل هناك أيضا معنى آخر موجع يتسلل إليك إذا تأملت مغزى الصراع كله: هذه الدائرة القدرية المحيطة بالشخصيات، وبالصالة، يبدو أنها محيطة أيضا بالوطن، رغم اختلاف العصور والأزمنة، فهل يمكن أن تنكسر تلك الدائرة ذات يوم؟