أسرار هرم سقارة.. في حضرة واح تي وأحفاده

رباب طلعت

ساعتان إلا خمس دقائق، مدة أقصر مما يتمناها الباحث عن “أسرار مقابر سقارة”، الواردة في أحدث وثائقيات “نتفليكس” الذي تصدر قائمة ترند المشاهدات عالميًا وليس في مصر فقط، فتلك الدقائق في حضرة واح تي كاهن الدولة القديمة، وأحفاده المصريين من أبناء الدولة الحديثة الذين أخرجوه بأيديهم للنور، ليزيحوا الستار عن أعظم كشف أثري في مصر منذ 50 عامًا أو ما يزيد، بأقل الإمكانيات المادية وأعظم الإمكانيات البشرية تلك التي توارثوها على مر العصور من أجدادهم الفراعنة.

“أسرار مقابر سقارة” عمل فريد من نوعه، ليس فقط لجودته التقنية ومعايشته لعمال البعثة المصرية المكتشفة لجبانة الحيوانات ومقبرة واح تي، بل أيضًا لملامسته الجانب الإنساني لتلك البعثة، تلك المظاهر الإنسانية العظيمة التي تجسد علاقة الأبناء بالأجداد، أولئك المصريون البسطاء في ملامحهم العظماء في أعمالهم، ويمكن تلخيص ملامح ذلك فيما يلي:

 

(1)

 

“إحنا أكتر ناس نقدر نعبر عن أجدادنا لأنهم أجدادنا.. إحنا أقرب ليهم من الأجانب بخطوة”، بتلك الكلمات البسيطة عبر أحد أعضاء البعثة عن رأيه في مهنة التنقيب عن الآثار التي توارثهًا أبًا عن جد، ويعلمونها لأبنائهم وكأنه وأسرته وهبوا أعمارهم للبحث عن أسرار الأجداد داخل قبور وتوابيت وخلف نقوش وأثار تروي حضارة شعب وتقص حكايات إنسانية عن ناس عاشوا من قبل، ليس ذلك فقط بل أكد بها أننا نحن المصريون معنوين بتلك الأسرار لا غيرنا، وتلك البعثة المصرية يعمل كل فرد منهم كالباحث عن تاريخه وفك ألغاز أجداده، وليسوا مجرد متربحين من ميراثهم دون حق.

ظهرت تلك الصورة جليًا طوال الفيلم، من خلال إسقاط الضوء على مشاهد بعينها بين العاملين في البعثة والآثار المكتشفة وأبرزها كان تفاني كل فرد في البعثة في عمله، فمنهم من يتحدث لقطعة الأثر كأنها عروس يخبر الجميع بمدى جمالها، والآخرين يحفرون ببطئ وحرص شديد كي لا تنكسر أصغر المكتشفات، يحملون التوابيت على أكتافهم وكأنهم يحملون تاريخهم على عاتقهم، وطبيبة العظام تصف الجماجم بأنها امرأة طيبة وسيدة شابة مرحة ورجل ضعيف البنية مرفه وأطفال من أعمار مختلفة وتتحدث بأسى عن احتمالية موتهم بمرض الملاريا كأول أسرة تصاب به في التاريخ، تنظف العظام والجماجم بحب كأنها تعرفهم جيدًا، تساؤل مترجمي الكلمات المنقوشة وهم يبحثون عن سر تلك المقبرة ومن صاحبها الأصلي ومن هو واح تي، كأنهم يريدون القصاص لمقتل تلك الأسرة بعد آلاف السنين، ووضع كل منهم مكان واح تي وشعورهم بالأسى لما ألم به من موت أبنائه، والفرحة الغامرة والغناء بعد الاكتشاف الأخير.


(2)

 

اقتصر الفيلم على فريق البحث المتواجدين في الجبانة فهم الأبطال الحقيقيون للعمل، بجانب أثار أجدادهم، ولم يتطرق للحديث مع الوجوه المعروفة عن الآثار، أو اللجوء لأحد المسؤولين ليروي ما لم يرى، فقط هم العاملون في الجبابنة من البسطاء الذين يُرزقون قوت يومهم من البحث عن التاريخ، حتى إن العمل تطرق لبعض ملامح حياتهم الشخصية عن كثب، مثل صلاة الريس مصطفى في الجامع، وعلاقة حمادة والأستاذ أحمد ببعضهما، وكذلك الضحكات فيما بينهم والأحاديث الجانبية على هامش عملية البحث عن أسرار  الهرم العظيم، مما أضفى مصداقية على العمل، بالإضافة إلى الإشارة إلى أن مثل تلك البعثات هي مصدر دخل المئات من العاملين فيها، وأحقيتهم في التنقيب والبحث عن أسرار أجدادهم.

نرشح لك: الآثار توضح تفاصيل أضخم كشف أثري في 2020


(3)

 

حرص العمل على عكس الحياة ما بين عالم الأحياء والأموات، من خلال التصوير عبر الطائرة، حيث ظهر النقيضين في مشهد حديقة النخيل الخضراء والصحراء الصفراء، وكذلك الانتقال ما بين لقطات حية للتعامل مع الأرض والحيوانات وغيرها مما وجدوها منقوشة على جدران مقبرة واح تي، في رسالة بأن أحفاد الفراعنة نجحوا بفطرتهم توارث مهن الأجداد الأصلية.


(4)

 

استعرض العمل الكثير من الشخصيات المخلصة والمتفانية في عملها، والبارعون أيضًا في تخصصاتهم،وهو ما يستحقوه بالفعل، لتخليد جهودهم، بدءًا من كل عامل يحفر بدقة وتمكن بحثًا عن الأسرار، والدكتورة مريم طبيبة العظام ونبيل ونرمين الذين يحلون ألغاز الجدران المكتوبة، وحمادة وأستاذ مصطفى وغيرها كثير من الأسماء والوجوه التي ظهرت خلال الأحداث.


(5)


ظهرت من خلال العمل سمات أساسية في الشخصية المصرية، مثل خفة الدم وقص النكات، التدين الوسطي من خلال مشهد صلاة المشرف على الموقع في المسجد، وعلاقة الآباء بالأبناء ومحبتهم لهم، توريث المهن للأبناء، حب تاريخنا والانتماء إليه، وغيرها الكثير.

نرشح لك: بعد أنباء هدمها.. “الآثار”: جبانة المماليك بعيدة عن محور الفردوس