البحث عن أيقونة في رجاء الجداوي

فاطمة خير

تمر أوقات الحزن مهما كانت عصيبة، تدوم أياما أو أسابيع لكنها تمر، وللموت جلاله الذي يجعل القلوب ترضخ لسلطان هيبته، ومن الطبيعي أن يكون وقع وفاة شخصية عامة أمرا ليس عابرا، وإذا كانت هذهِ الشخصية محبوبة يكون الأمر مقترنا بألمٍ حقيقي وحزن صادق، وهذا ما حدث مع خبر رحيل الفنانة الجميلة رجاء الجداوي، والذي كان إلى حدٍ كبير هو خبر متوقع بسبب السن والحالة الصحية وطول فترة البقاء في الرعاية المركزة بسبب فشل محاولات العلاج، وبرغم ذلك جاء الحزن على رحيلها كبيرا وكأن الخبر جاء مفاجئا، تفسيري لذلك ليس الحب وحده، وإنما أيضا الرغبة الحقيقية في نجاتها من الأزمة الصحية حتى ولو بدا ذلك غير واقعي، الرائع أن ذلك جاء على نطاق واسع أو شعبي بمعنى أصح، وهو أمر لا تحظى به كل الشخصيات العامة والفنانين، ووراء ذلك يقف شعور أعتقد بيقين أنه السبب الحقيقي للتمسك بوجود “شخص” رجاء الجداوي على قيد الحياة.

نرشح لك: في رحيل رجاء الجداوي.. 43 يوما فضحتنا!!

شخصيا شعرت نحو الجداوي بألفة وكأنها واحدة من نساء عائلتي، وتصورت أن هذا يخصني وحدي، بعد رحيلها أدركت أن هذا ليس حقيقيا، فالحزن عليها هو بسبب ألفة حقيقية من الجميع، وكأنها واحدة من الأسرة، في زمن نفتقد فيه “النموذج”، استمرت رجاء الجداوي في العمل والتواجد لآخر لحظة، فهي لم تكتفِ بالمشاركة في الأعمال الفنية، وإنما استمرت أيضا في الظهور التليفزيوني من خلال برنامج الحكاية، ومن خلال الراديو على إذاعة 9090 ببرنامج “وإنتو بصحة وسعادة”، تواجد مكثف بحضور محبب، ومشاركات حيوية بآراء تحتاجها الأسرة المصرية، ولا ينبع ذلك إلا من إيمان حقيقي بقيمة العمل، وبضرورة التواصل بين الأجيال، فالمفارقة المحزنة أنه مع زيادة شبكات التواصل قل عمق هذا التواصل، ولم تنجح فنانات كثيرات في الاستمرار مع الاحتفاظ بوهج السن، وفي الوقت نفسه امتلاك الرؤية والحكمة المرتبطة بخبرة السنين، خبرة طازجة دسمة تم اكتسابها من خلال رحلة حياة ثرية، مع ثقافة حقيقية، وذوق عالي وتذوق للجمال، هي أشياء يفتقدها مجتمعنا لأنها تنقصه بشدة..للأسف، وسط كل ذلك تنير رجاء كسيدة مصرية بهيئة أنيقة لا تتجاهل السن ولا تخجل من الوزن، لا تسيئ استخدام عمليات التجميل، تحتفظ بملامحها ولون شعرها، سيدة أنيقة في أسلوب حديثها: انتقاء ألفاظها و”تون” صوتها، كما ربتنا أمهاتنا في زمن صار بعيدا قبل أن يصبح القبح أداة للمباهاة بقوة الجهل وفرض عين من جحافل الظلاميين، هي سيدة تشبه أمهاتنا وتشبه المصريات قبل زمن طحنهن تحت أثقال كثيرة دفعتهن بعيدا عن مواطن الجمال وثقتهن في جمالهن الخاص.

نرشح لك: سيرة القراءة (5).. عرفت الله

في رأيي أن جزء كبير من حزن الجميع على رجاء الجداوي، بالإضافة طبعا لفنها، ولطفها الشديد الذي شهد به الجميع، وجدعنتها وحبها للخير؛ هو الافتقاد للشعور بالألفة مع سيدة مصرية تمثل ما يجب أن تكُن عليه امرأة مصرية في عمرها أما كانت أو عمة أو خالة أو جارة أو سيدة كبيرة المقام في نطاق العائلة أو الجيرة، كن كثيرات في زمن مضى، يقمن بدور غير مباشر في “ظبط” وتوجيه معايير الأناقة والذوق والأصول، وكلها أشياء افتقدناها بشدة وسط زحام وقسوة الحياة، وكنتيجة لسنين ساد فيها خطاب معادي للمرأة ويحقر من شأنها حتى كرهت النساء أنفسهن.

في زمن مضى كانت النساء تشاهد مذيعات التليفزيون وتقلد طلتهن، وتشاهد الممثلة المحبوبة في فيلمها الجديد لتصبح ملابسها في الفيلم هي موضة الموسم، وكن هؤلاء يخترن بمعايير تحافظ على الذوق والرقي، كان كل شئ يدور في نطاق البحث عن الأفضل، والارتقاء إلى الأعلى، لم يكن القبح حينها سبباً للفخر، ولا التمسك به دليلا على الأصالة.

كان المجتمع كله دليل لمساعدة بعضه البعض، وكانت النساء حافظات للقيم الأصيلة والمواكبة لتغيرات العصر، ومثلت رجاء رحمها الله، نموذجا لسلالة كادت تختفي ، من بقيت منهن لم تعد تهتم بالخروج من دائرتها الضيقة، ولذلك سيفقتد الجميع رجاء دون حتى أن ينتبه لذلك، فقد كانت أما وخالة وعمة وجارة.. كانت “ست كُمّل” وبنت أصول.

نرشح لك: لماذا الآن؟.. تحليل لأسباب الغضب “المتأخر” من بوست إسعاد يونس