سيرة القراءة (5).. عرفت الله

حاتم حافظ

في سن الثانية عشر تقريبا التحقت وبعض الأصدقاء بدار لتحفيظ القرآن. المحفّظ الشاب كان ودودا للغاية. كان طالبا بكلية الهندسة، له لحية خفيفة كعادة الشبان في مثل سنه. مثّل لنا هذا الشاب أملا في المستقبل الذي كنا نتهيأ له؛ متفوقا في دراسته وحافظا للقرآن. اندمجت في دروس الحفظ لدرجة أني بدأت في تفضيل الدروس على لعب الكرة.

نرشح لك: سيرة القراءة (4).. الفريق السري للخالة نانو


في هذه السن كنت على أعتاب الانتظام في تدريبات الكرة في نادي المقاولون العرب. كنت ألعب في مركز صانع الألعاب وكان ينتظرني مستقبل غائم كلاعب كرة لولا أني فوجئت باكتشاف ضعف نظري ما اضطرني للبس النظارة مبكرا. الطبيب الذي قاس لي ضعف نظري أخبر والديّ أني يجب ألا أخلع النظارة إلا ساعة النوم إن أردت الحفاظ على ما تبقى لي من نظر! فجأة تخليت عن حلم أن أكون لاعبًا للكرة وبدأت في الاستعداد لأن أكون مطربًا!

منذ طفولتي كنت مغرما بعد الحليم حافظ. مربيتي كانت تعشق عبد الحليم وكانت تسمعه طوال الساعات التي تصاحبني فيها انتظارا لعودة والديّ من العمل. حين نبهتني أن عبد الحليم مات، وجدتني أصرخ فيها بأنه لم يمت. كان صوته ما زال في الراديو صادحا؛ وبالنسبة لطفل كان ذلك علامة على أنه ما زال حيًّا. تهيأت لأن أكون مطربا كعبد الحليم، حتى أن والدي – والذي اكتشفت أنه كان يغني في كورال شركته – بدأ في تدريبي على الغناء ونصحني ببعض التدريبات للقيام بها. بدا متحمسا على عكس عادته.

تلبستني روح عبد الحليم لدرجة أن قصص حبه في أفلامه هي القصص التي تمنيت أن أعيشها. كنت أحفظ حوارات أفلامه حفظي لدروس اللغة العربية. كان يمكنني أيضا أداؤها بنفس طريقته. لكني سريعا قررت التخلي عن هذا الحلم لأني بدأت في كتابة الأغاني!
كتابة الأغاني بدأت كصدفة. إيهاب ابن خالي كان قد انتظم في دروس البيانو في معهد الموسيقى العربية فيما كان عبد الحليم ابن خالتي قد ورث صوت أبيه الجميل. حضرنا معا حفل زفاف واحدة من قريباتنا فقام حليم ليغني على عزف إيهاب. في طريق العودة اتفقا معا على أن يلحن إيهاب أغاني لحليم. كان ينقصهم شاعر فتطوعت أن أكونه. بعد سنوات قليلة كنت قد كتبت ما يزيد عن ثلاثمائة أغنية. لحّن لي إيهاب بعضها قبل أن أكتشف وجود دارس للموسيقى في شارعنا وبعد انضمامه لنا لحّن لي بعض ما كتبته، وبعد التحاقي بأكاديمية الفنون وجدت ملحنا آخر.

استعدادا لأن أكون شاعرا غنائيا قرأت كل ما وقع بين يدي من أشعار. كنت أبحث عن دواوين الشعر في كل مكان. أول ديوان شعر اشتريته وحفظته كاسمي كان ديوان الشاعر الكبير إبراهيم ناجي. اشتريت بعدها ديوان كامل الشناوي، لكن أيًا منهما لم يشبع نهمي للشعر. الشاعر الذي ألهمني بحق كان بن زيدون. أَتاكَ مُحَيِّياً عَني اِعتِذارا/ عَذارى دونَهُ ريقُ العَذارى/ تَخالُ الشَهدَ مِنهُ مُستَمَدّاً/وَنَفحَ المِسكِ مِنهُ مُستَعارا. الشاعر الأندلسي دفعني لقراءة الشعر الأندلسي كله تقريبا حتى أنني تمنيت لو أنهم يدرسونه لنا بدلا من كل الشعر الذي كانوا يحشون به كتب الوزارة. أغرمت بالغنائية في الشعر الأندلسي لدرجة أن هذا الغرام طبع علاقتي كلها بالشعر. الغنائية في الشعر كانت روح الشعر بالنسبة لي: لا شعر حقيقي إلا ما كان قابلا للغناء. بعد سنوات حين بدأت التعرف على شاعري المفضل: أمل دنقل؛ وجدتني ألفظ قصائده السياسية المشهورة لصالح قصائده الغنائية.
شاء الهوى أن نلتقي.. سهوا
كم كنت أفتقدك
يا وجهها الحلوا
*
العينان الخضراوان
مروحتان
في أروقة الصيف الحران

شكّلت الغنائية في الشعر ليس فحسب علاقتي بالشعر لكن مفهومي أيضا عن الشعر. في مقال نشرته في أخبار الأدب بعنوان الشاعر مدرس لغة فاشل كتبت أن الفارق بين مدرس لغة عربية وشاعر: أن الأخير استثنائي بالنسبة للغة، فيما يُحجم الأول – طواعية أو غصبا – عن التعامل مع مادته – الشعر – باعتبار أن لا استثناء فيها، كمعادلة رياضية تُسفر، في كل مرة تدور فيها، على النتيجة نفسها.

يتعلم المصريون – أطفالا وصبية وشبابا – أن الشعر مجموع محسناته البديعية، وأن قيمة قصيدة ما في أنها تساوي (5 كنايات + 3 مجازات مرسلة – طباق متكرر مضروبة في وزنها الشعري) وأنه في كل مرة يقوم فيها الطالب المُجد بقراءة القصيدة نفسها أمام المدرس المُجد نفسه سوف يكون الناتج هو نفسه: قصيدة جديرة بأن تُنشر في كتب وزارة التربية والتعليم.
ثمة لوثة ما تصيب الشاعر حين يُقدم على كتابة قصيدته تجعله يُلقى باللغة في أبعد مكان فيما يضع مدرسو الشعر اللغة بين أيديهم لأنها المقدس الذي يُقسمون عليه وبه. المدرسون ليس عليهم إلا محازاة الحائط بينما يُدرسّون الشعر، وبمحازاة الحائط لا يمكنك أن تتذوق قصيدة، يمكنك بحذاء الحائط فحسب حفظ القصيدة في الفورمالين حتى تكون بلا رائحة بينما تُخرجها بحذر من تاريخها لتُعلمها لطلابك. والقصيدة حين تُنزع كورقة من كتاب من تاريخها لن يكون لها معنى أكبر من ورقة منزوعة من كتاب.

مُعلق أنا على مشانق الصباح/ وجبهتي – بالموت – محنية/ لأني لم أحنها حيّة.. كيف يمكن لمدرس مبرمج على تدريس الشعر كمعادلات رياضية أن يقرأ لتلاميذه هذه القصيدة، كيف يمكن له أن يقرأها دون حضور أمل دنقل، كيف يمكن أن يقرأها منزوعة من التاريخ ومن الإيديولوجيا، كيف يمكن أن يقرأها في غيابها إذن!.
إذا ما أردنا للقصيدة أن تُقرأ (لا أن تُدرّس) يجب نزعها من (المنهج) ودمجها ضمن (التذوق الفني)، يجب تصفية المناهج من جدولة الفن: الأدب والموسيقى والفنون، وإلحاق الفن نفسه في خطة التذوق الفني، حيث يمكن للقصيدة أن تُقرأ في حضورها، في حضور الشاعر وفي حضور القارئ، وفي حضور التاريخ، التاريخ الإنساني، والتاريخ الفني، ومعاقرة القصيدة لا تصنيفها وخنقها في خانة من خانات محفوظة. لصناعة قارئ للشعر في المدارس يجب منحه الحرية لأن يقرأ القصيدة كما يراها لا كما اتفق عليه خبراء اللغة، يجب منحه حرية استحضار القصيدة كشبح، واستحضار معانيها، وإطلاق عفريتها، يجب منحه حرية أن يُدرك أن الشعر ليس فورمالين اللغة وإنما هو انحراف عن اللغة، وأن الله لم يُعلّم آدم الأسماء كلها إلا بمنحه حرية اختبارها، فأن تَخبر الشيء أن تُسميه. ولو أن آدم قد “تعلم/حفظ” أسماء الأشياء “كلها” لصار إلها لأن معرفته سوف تكون إلهية: “الأسماء كلها”، ولكن آدم قد مُنح حرية أن يُكوّن خبرة بالأشياء بملامستها ومقابسة روحها فأمكنه تسميتها، كلها. آدم أمكنه أن يختار بين أن يكون شاعرا أو أن يكون قارئا للشعر، بينما الملائكة قد خُلقت لتكون مدرسي لغة في فصول نظمتها وزارات التربية والتعليم!

في ظني أن هذا الغرام بالغنائية كان أكثر ما جذبني لدروس قراءة القرآن. الشاب الذي كان يقوم بتحفيظنا ابتدأ معنا بحفظ السور المكية. السور المكية – على عكس السور المدينية – كانت مسكونة بالموسيقى وبالغنائية. سورة الفجر لم استطع إلا قراءتها كقصيدة: والفجر/ وليال عشر/ والشفع والوتر/ والليل إذا يسر/ هل في ذلك قسم لذي حجر. أما قصيدة أمل دنقل شيء يحترق فلم استطع يوما إلا قراءتها كعمل مقدس! شيء في قلبي يحترق/ إذ يمضي الوقت .. فنفترق/ ونمدّ الأيدي/ يجمعنا حبّ/ و تفرّقها .. طرق. الغنائية هي روح الشعر بالنسبة لي وغنائية الشعر مسكونة دائما بالقداسة، بروح النصوص المقدسة. نشيد الأنشاد مثلا أظنه أجمل ما كُتب في تاريخ الغنائية المقدسة.

في ذلك الوقت بدأت في كتابة الشعر. كان شعرا عاطفيا أقلد فيه الموشحات الأندلسية ويبدو أنه كان – كعادة تلك الموشحات – غارقا في الحسية لأني حين أسمعت المحفّظ الشاب ما كتبت ابتسم مغالبا غضبه وقرر أن يبدأ في إلقاء الدروس الدينية علينا. في البداية كانت دروسا لطيفة. حكى لنا عن الخلفاء الراشدين. أحببت أبو بكر أكثر ما أحببت عمر وإن لم أخف إعجابي بعمر كزعيم. لكن انتهت علاقتي بدروس هذا الشاب حين خطب فينا محذرا من سماع الموسيقى والغناء. أخبرنا أن الذي يستمع للموسيقى يصب الله في أذنه يوم القيامة زيتا مغليا. لم أفهم ما الذي يمكن أن يُغضب الله كل هذا الغضب من الموسيقى! كنت في الثانية عشر تقريبا حين فهمت أن الله الذي يتكلم عنه هذا الشاب ليس الله الذي أعرفه والذي أحبه.