فرويد وكويك ساند.. كورونا ودراما الفرص الضائعة!

سارة فوزي

إذا افترضتُ أن لكورونا إيجابية واحدة بحياتي، فسوف تكون أنها جعلتني أشيح بنظري بعيدًا عن الدراما الأمريكية نسبيًا رغم أنني من أكبر مهووسيها.

فخلال هذا الحظر المنزلي ومع شخصية مثلي لديها هذا العشق والشغف بالسينما الأمريكية ودرامياتها ومفرداتها البصرية، كان توقف الإنتاج الدرامي الأمريكي حاليا بمثابة صاعقة كبيرة لي ولكنه منحني فرصة ثانية عظيمة لاكتشاف دراما العالم المتبقي!

ومع تقليل بث المسلسلات الأمريكية المعروضة التي اهتم بمتابعتها باتت لديَ ساعات إضافية لاكتشاف مسلسلات أخرى. بدأتُ عملية البحث فوجدت مسلسلين أحدهما سويدي يحمل اسم Störst av allt)، وبالإنجليزية يُترجم إلى (Quicksand، والآخر مسلسل نمساوي ناطق بالألمانية يحمل عنوان Freud)، وكليهما مسلسليَ جريمة من إنتاج منصة Netflix ومترجمين للإنجليزية والعربية.

الأول وهو السويدي ينتمي إلى دراما المراهقين في إطار جريمة مكون من 6 حلقات، تدور أحداثه حول فتاة بسنتها النهائية بإحدى المدارس السويدية العامة تصادق شابا من أسرة ثرية يلتحق حديثا بهذه المدرسة.

ثم نكتشف أنها اعترفت بقتله دفاعا عن نفسها بعد أن قتلت صديقتها المقربة عن طريق الخطأ، ما هى دوافع هذه الفتاة؟ وهل تصدق روايتها للأحداث؟ هل قد تتعاطف معها؟ هل تعتقد أنها الجاني أم الضحية؟
هذا ما يتم كشفه على مدار الحلقات الست التي اعتمدت على تقنية Flashbacks في السرد وهي (إعادة سرد الأحداث من الحاضر إلى الماضي) كما اعتمد صناع العمل على تقنية القطع المتوازي parallel editing ما بين الماضي والحاضر وصولا لمحاكمة هذه الفتاة.

أفضل ما بهذا المسلسل هو معالجته للقصة، المسلسل لم يكتفِ بعرض الجريمة ولم يعتمد على أسلوب البحث عن الدافع والفرصة والتشكيك في الجاني الحقيقي، ولكنه أخذنا بذكاء لعرض جوانب قد لا نعرفها عن الحياة بالسويد فانغمس في تعريفنا عن طريق الحوار البسيط والشيق بنظام العدالة والقضاء في السويد.

نرشح لك: في ظل كورونا.. 3 ظواهر سلبية لحقت بالوسط الثقافي

واستعرض بعض القوانين الخاصة بالسجون في السويد التي قد لا تصدق أنها سجون وتراها فنادق صغيرة يُعامل بها السجناء بصورة آدمية وإنسانية لدرجة ألا تعتقد أنها موجودة بالأساس.

اهتمام بصحة السجينة المراهقة ورغباتها والرياضة وممارسة حياتها الطبيعية داخل السجن، والحقيقة لا أعرف يقينا هل هذه هى الصورة الحقيقية لسجون السويد أم محاولة درامية دعائية لجذب الانتباه لحقوق الإنسان بالسويد عبر منصة يشاهدها الملايين حول العالم.

المثير للدهشة أن عنصر القوة بهذا المسلسل هو عنصر الضعف أيضا، فلقد حاول المسلسل ألا يركز على الجريمة فحسب وهو أمر جيد للغاية، وأضفى على الجريمة أبعادا اقتصادية واجتماعية ونفسية خاصة بعنف الآباء ضد الأبناء وتداعياته النفسية، قضايا تعاطي المخدرات بين المراهقين والاغتصاب والانتحار، والصراع الطبقي، العلاقات السامة بين المراهقين كما ألقى المسلسل بظلاله على أزمة اللاجئين السوريين بالسويد ومدى استيعاب المجتمع السويدي ونظرته لأولئك اللاجئين فلم يغفل ذلك أيضا.

ورغم كل ذلك فإن 6 حلقات لم تستوعب معالجة هذه القضايا فأصبحنا نُنقِل بين الشخصيات والأحداث والحوارات المباشرة سريعا لندفع بالقضايا السابقة لدى المشاهدين ونفرضها عليهم فرضا مما خلق عدم توازن أحيانا بين القصة وأبعادها، فالأفضل من وجهة نظري المتواضعة اختيار سببين أو قضيتين للتركيز عليهم مع فكرتنا أو قضيتنا الرئيسية الخاصة بالجريمة أو أن يكون المسلسل مكون من 10 حلقات ليتحمل كل ذلك.

ركز المسلسل على قضية أخرى مهمة ربما تكون عالمية وهي الحكم المسبق لوسائل الإعلام على من تتم محاكمتهم قبل أن يصدر القضاء حكمه النهائي، ومحاولة الإعلام أحيانا تشويه صورة البعض قبل إدانتهم الكاملة للتأثير على الرأي العام بما يؤثر على أحكام القضاء، وما تغذيه مواقع التواصل من شحن وتعبئة من منظور واحد يقضي على الضحايا أو الجناة قبل أن تثبت صحة روايتهم للأحداث.

كان يمكن لصناع هذا العمل إضافة بعض جوانب الإثارة والتشويق بالتلاعب بالمُشاهد في عرض الأحداث وروايتها بأكثر من منظور عبر شخصيات المسلسل، لتكتمل الصورة النهائية بالأخير دون الاعتماد على منظور البطلة فقط في الحكي.

نرشح لك: لماذا تفوق موقع “سكاي نيوز” على “العربية” و”الجزيرة” في تغطية أزمة “كورونا”؟

بلا شك تأثر هذا المسلسل بمسلسلات الدراما الأمريكية الموجهة للمراهقين في تكنيك الإضاءة والتصوير والإخراج، لدرجة أنك إذا أغلقت الصوت سوف تعتقد أنك تشاهد مسلسلا أمريكيا لكنه يبقى مسلسل يستحق المشاهدة.

والحقيقة أنني لا أحبذ أسلوب التقييم عبر الأرقام، فما ماهية هذه الأرقام؟ وهل سيختلف الأمر إن أعطيناه 8.5 أو 9 هل هذا فارق كبير؟ فهو في دائرة الامتياز.. وإن يكن فهو مسلسل جيد جدا وتجربة جريئة للدراما السويدية.

أما مسلسلنا الآخر هو النمساوي Freud دراما جريمة خيالية وفانتازيا تاريخية أي أنه يستند لأحداث ووقائع تاريخية بعضها حقيقي وقد حدث بالفعل والبعض الآخر من مخيلة صُناعه، تدور قصته قبل شهرة عالم النفس الأكثر شهرة بالعالم ومؤسس الطب النفسي (سيجموند فرويد) حينما يبدأ في تطوير العلاج النفسي بالتنويم المغناطيسي في النمسا أواخر القرن التاسع عشر، فنبذه الأطباء الذين لا يعترفون بالطب النفسي ويعتقدون أن لكل مرض سبب عضوي وليس نفسي.

وفي نفس السياق يبدأ فرويد في التعاون مع الشرطة التي تحقق في سلسلة غامضة من جرائم القتل والانتحار غير المبرر في فيينا وتتصاعد الأحداث حينما يبدأ فرويد في التعرف على الوسيطة الروحية (فلور سالومي) والتي تجسدها الممثلة السويسرية البارعة (إيلا رومبف).

الحقيقة أن عناصر التميز بالمسلسل تتوازن مع عناصر القصور، فالمسلسل على درجة عالية من الإتقان خاصة في التجسيد الدرامي لكل الممثلين وأدائهم الآخاذ كذلك في اختيار مواقع التصوير والإضاءة الخافتة والألوان الباردة للتعبير عن الجريمة والغموض، والاهتمام بتفاصيل الحقبة الزمنية من الملابس والديكور والأكسسوارات لتعايش أجواء القرن التاسع عشر في إمبراطورية النمسا وعاصمة الموسيقى بالعالم آنذاك فلم يغفل المخرج عن استخدام موسيقى تصويرية تعلق بذهنك.

المسلسل وقع في فخ المعالجة غير المتزنة إطلاقا فرغم حرص المسلسل بكل حلقة على تناول ومعالجة نظرية أو مفهوم نفسي صكه ووضعه فرويد في كتبه (الهيستريا، الفصام، الكبت، التنويم بالإيحاء.. إلخ)، إلا أن الحوار ضاع في تلقين المُشاهد المفهوم أو النظرية كما لو كنت تسمع كتابا صوتيا وليس دراما!

فرغم أن المسلسل قد بدأ أول ثلاث حلقات على خط درامي متميز مكون من جرائم غير مترابطة، دوافع مختلفة، اشتباه بأكثر من جاني والاعتماد على تكنيك Red Herring في الحبكة المعقدة وهو أن أضع لك تفاصيل كثيرة تجعلك كمشاهد تعتقد خطأ أنك قد توصلت للقاتل الحقيقي ولكنك أبعد ما تكون عن معرفته.

ثم بدأت متوالية الإخفاق بهذا المسلسل لدرجة جعلتني أعتقد أن من كتب أول 3 حلقات غير من أكملوه ولكنني تأكدت من الأمر فوجدت أن ثلاثة كتَاب تعاونوا بكل الحلقات في الكتابة ولم يتغيروا مطلقا لكنهم غيَروا مجرى الأحداث للأسوأ بكل أسف.

أربكونا وأضاعوا الحبكة المحكمة المعقدة ثم أدخلونا بتفاصيل وحشو كان يمكن الاستغناء عنهم تماما بداية من مجموعة من المؤامرات والصراعات السياسية ثم الأساطير والخرافات، مرورا بإسقاطات على اضطهاد اليهود وبيروقراطية النظم الحكومية وصولا لفساد النظام الملكي. فبات مسلسلا فوضويا بأحداث مفاجئة غير مبررة قائمة على الصدفة لدفع الأحداث لمجرد أن هذا الشخص قد تواجد هنا فحدث ما حدث!

وإن ركز صناع المسلسل على الخط الدرامي الخاص بجدلية المس الشيطاني والفصام مع رفض فرويد للمس الشيطاني كونه طبيبا وعالِما يؤمن بالمرض النفسي تماما والقدرة على علاجه لخلق هذا الأمر صراعا دراميا داخليا وخارجيا قويا.

نرشح لك: كيف تعامل “ماسبيرو” مع أزمة كورونا وقرار الحظر؟

ضاع الإيقاع المحكم وأصبحت الديالوجات عديمة الجدوى ولا تنتهي بين الشخصيات مع ظهور غير مبرر لأسرة فرويد كان يمكن استغلاله بصورة أفضل، خاصة أن فرويد بالواقع كان معاديا لوالده وفي صراع مستمر مع أسرته واستمرار ظهور غير مؤثر لخطيبة فرويد داخل المسلسل دون استغلال أيضا!

شخصية فرويد الشاب داخل المسلسل هي شخصية طائشة متهورة لكنها هادئة جامدة ومطيعة وسريعة الخضوع لغيرها وهو على العكس مما قرأته وكُتب عن فرويد تماما، فلقد كان فرويد في الحقيقة متمردا نرجسيا مصابا بنوع من الاضطراب ثنائي القطب ولديه تأرجح شديد في المزاج وكتب فرويد بنفسه عن صراعاته الداخلية التي لم يظهرها المسلسل سوى في مشهدين متباعدين يمرون عليك مرور الكرام.

مع أن المسلسل لو عالج دراميا صراعات فرويد الداخلية وعدم قدرته للتفريق بين الحقيقة والخيال، لأنه كان مدمنا للكوكايين، في إطار الجريمة لكان الأمر مشوقا للمشاهد تماما.

كان المسلسل عن فرويد الشاب لكن الحقيقة أن شخصية (فلور سالومي) سرقت منه الأضواء فقد مرت بكل التحولات السيكولوجية والاجتماعية والفكرية وكانت هى المحرك الفعلي لكل الأحداث، وفي كل مشاهدها مع فرويد كانت شخصيته تتراجع تماما دراميا وتجسيديا.

إجمالا، ورغم هذا النقد، المسلسل على درجة عالية من الإمتاع لمحبي فرويد وعلم النفس المرتبط بالجرائم.

وبالأخير كانت كورونا فرصة جيدة لي لمتابعة الدراما الضائعة مني وسط بريق هوليوود، وربما تكون كورونا فرصة لنا جميعا لتصحيح المسار بأمور عديدة قبل ضياعها.

نرشح لك: جونسون وكورونا … التحدي يصل مرحلة الحسم