علامات صحفية (2): فاطمة اليوسف.. صاحبة الجلالة.

طاهر عبد الرحمن

تاريخ طويل وحافل، صعودا وهبوطا، عاشته الصحافة المصرية، منذ بدايتها الحقيقية منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، وعلى طول تلك المسيرة فإن معظم من عملوا بها حاولوا – كل بقدر استطاعته – أن يُطور المهنة، شكلا وموضوعا، ومنهم من نجح ومنهم من أخفق بحسب الظروف السياسية والاجتماعية، لكن يمكن القول بأن هناك مجموعة من الصحفيين الذين استطاعوا تأسيس مدارس صحفية كبيرة، كان لها الفضل في إرساء وتدعيم الصحافة، ونقلها تلاميذه، منهم من التزم بها ومنهم من أضافوا لها.

يواصل “إعلام دوت كوم” رصد أبرز تلك المدارس وتجارب أصحابها وأهم ما يميزها ويميزهم، من خلال سلسلة “علامات صحفية”، وهذه المرة سنتحدث عن واحدة من رواد العمل الصحفي، وهي السيدة “فاطمة اليوسف”.

– مغامرة سيدة المسرح الصحفية

في عصر يوم من أيام عام 1925 قررت السيدة “فاطمة محمد محي الدين اليوسف” إصدار مجلة تعتني بالنقد الفني والأدبي في ظل التدهور الذي كان سائدا وقتها في الصحافة المصرية.

والسيدة فاطمة هي نفسها الفنانة المسرحية المعروفة وقتها باسم “روزاليوسف”، والتي اشتهرت بلقب “سارة برنار الشرق”، وقد كانت تلك بالضبط سنوات مجدها على المسرح.

في ذلك اليوم كانت “فاطمة اليوسف” تجلس مع أصدقاء لها، منهم الدكتور محمود عزمي والصحفي الشهير إبراهيم خليل، في محل حلواني بوسط البلد، اسمه “كساب”، وتطرق الحديث بينهم من الفن إلى الصحافة، واتفقوا جميعا على الحاجة إلى مجلة فنية بمستوى مهني جيد، بعيدا عن السائد وقتها.

في تلك اللحظة – بحسب كل الشهادات – فكرت فاطمة اليوسف وقررت، وفاجأت الجميع أنها سوف تصدر مجلة فنية وأنها اختارت أن يكون اسمها: “روزاليوسف”، لم يتصور أحد أن تكون “سارة برنار” المسرح المصري جادة في مشروعها الصحفي، ولكنها في صباح اليوم التالي ذهبت بنفسها وقدمت طلبا للحصول على رخصة لمجلة فنية، واختارت محمد التابعي – الموظف بقسم الترجمة بمجلس النواب والذي كان يكتب مقالات نقدية فنية في جريدة الأهرام – محررا بجانب إبراهيم خليل رئيسا للتحرير.


– يُتم مبكر وتألق باهر

كان السؤال الأهم لدى الكثيرين لماذا قررت فاطمة اليوسف خوض تلك المغامرة غير المضمونة، لكن بكل تأكيد يمكن القول بأن روح المغامرة كانت متأصلة فيها منذ طفولتها.

ولدت فاطمة اليوسف عام 1898 في لبنان لأسرة من أصل تركي، وتوفيت والدتها بعد ولادتها مباشرة وبعدها بأيام توفي والدها، وتولت أسرة الجيران العناية بها وتربيتها واختارت لها اسم “روز”، وفي سن صغيرة جدا قررت الهجرة واستقر بها المقام في القاهرة.

تعرفت على أستاذها ومرشدها ومعلمها “عزيز عيد”، الذي تدين له بالفضل في كل ما تعلمته، بدءا من الكتابة والقراءة وقد تعلمتها في سن الخامسة عشرة، وحتى التمثيل، والذي احترفته مبكرا وبرعت فيه، حتى استحقت لقب “سارة برنار” الشرق، في الفترة من عام 1915 وحتى 1925.

يمكن القول بأن “فاطمة اليوسف” (والتي أصبحت فيما بعد مصرية) كانت آخر الشوام العظام الذين جاءوا إلى مصر واستقروا بها، وأسهموا في تأسيس فن المسرح والصحافة على أسس علمية وحديثة، مثل آل تقلا الذين أسسوا جريدة الأهرام، وآل زيدان أصحاب الهلال، بل وحتى آل نمر (المقطم).


– بداية مرتبكة

لم يصدق أحد في الوسط الفني والصحفي أن فاطمة اليوسف، بكل نجاحها وشهرتها، سوف تقوم بإصدار مجلة فنية وأنها ستتخلى عن كل شيء من أجلها، ولكنها – لسبب غير مفهوم – أصرت على رغبتها، ولما رأت تلكؤ إدارة المطبوعات في منحها التصريح اللازم، قامت بعمل دعاية ضخمة في الصحف عن قرب صدور مجلتها، وهو ما دعا رئيس الإدارة لاستدعائها والتحقيق معها، وفي النهاية مُنحت التصريح، عندما بدا أنها جادة في ذلك.

كانت بداية مجلة روز اليوسف – كعادة أي بداية – مرتبكة بعض الشيء، من ناحية لم تكن صاحبتها تمتلك الخبرة الكافية لإدارة مشروع مثل ذلك، كشكل المجلة وإخراجها وحتى سعر البيع، ومن ناحية الخلافات التي اشتعلت بينها وبين محمد التابعي، المحرر الرئيسي للمجلة، لكن ثقتها في التابعي كانت بلا حدود، وهو ما دعاها لترك كل الأمور في يده، وبالفعل نجح.

لم تتوقع فاطمة اليوسف أن تحظى مجلتها الوليدة بالنجاح الكبير أو أن يصل توزيعها ليغطي تكاليفها على الأقل، كانت تريد مجلة فنية تقدم النقد الفني بأسلوب وشكل رصين وجاد، وهو أيضا هدف كل من تحمسوا لمشروعها، لكن صناعة المجلة واختيار توجهها وطريقة عملها كانت مهمة غير سهلة، والفضل فيها يعود إلى مرونة السيدة وإعطاء “العيش لخبازه” كما يقال، فكانت النتيجة نجاحا كبيرا.


– التحول الكبير

استمرت مجلة روز اليوسف كمجلة فنية لمدة تزيد قليلا على العامين، ثم قررت صاحبتها تحويلها إلى مجلة سياسية في المقام الأول، وقد حدث ذلك عام 1927، وبعدها دخلت المجلة وصاحبتها في معارك صحفية وسياسية وقضائية ليس لها آخر.

ففي عام 1930 عندما تم تعطيل الدستور، حكومة محمد محمود باشا، دافعت روزاليوسف، بالكلمة والرسم عن الشرعية، وهو ما استفز رئيس الوزراء فصادر المجلة، وبعدها – في حكومة إسماعيل صدقي – عندما ألغى دستور 1923 – كانت المجلة أقوى المدافعين عنه، وهو ما دعا صدقي باشا بإلغاء ترخيصها.

لم تستسلم فاطمة اليوسف لكل تلك الملاحقات والمصادرات فكانت – وقد أصبحت “صحفية” لها قضيتها ومواقفها السياسية – تسارع للحصول على ترخيص لمجلات بأسماء مختلفة، وبحسب الكاتب الصحفي، شفيق أحمد علي، فإنها في تلك الفترة أصدرت ثلاثة مجلات وهي: الرقيب (وقد ألغت الحكومة رخصتها بعد 4 شهور فقط) ومجلة “صوت الحق” (وقد صودرت بعد العدد الأول) ثم مجلة “مصر الحرة” (ولحقت بأخواتها سريعا أيضا) وكانت فاطمة اليوسف – بتأمل أسماء ما أصدرته من مجلات – تعتبر أنها في مهمة وطنية، أو ما أسمته “شرف الجهاد والدفاع عن قضية مصر”.


– صاحبة الجلالة.. روزاليوسف

عادت مجلة روزاليوسف – بعد عدة ملاحقات ومصادرات – للصدور بانتظام أسبوعيا، وفي فترة لاحقة صدرت كجريدة يومية، وأصبحت حياة فنانة المسرح السابقة كلها تتمحور حولها ومن أجلها، وقد تحولت إلى “بريمادونة الصحافة” كما يصفها الكاتب الصحفي والمؤرخ الراحل، صلاح عيسى.

بأي مقياس مهني فإن مجلة روزاليوسف كانت تطورا كبيرا في تاريخ الصحافة من حيث الشكل والإخراج، ليس بمعنى التجديد المباشر فقط، بل لأنها حافظت على أسلوبها وهويتها معظم الوقت، فكانت دائما مجلة “على يسار نظام الحكم”، وكانت نبرة الانتقاد والسخرية اللاذعة سمتها الرئيسية.

وهذا بالطبع ما يُحسب للسيدة صاحبتها وكل من عملوا معها وشاركوها الحلم، فهي من أعطت الفرصة كاملة لمحمد التابعي، بكل ما يمثله من أهمية في تاريخ الصحافة، وكل الصحفيين ورسامي الكاريكاتور، الذين أبدعوا على صفحات المجلة، بداية من “صاروخان” الذي نشر أولى رسوماته في روز اليوسف.

ولم تكن الحياة بالنسبة لفاطمة اليوسف سنوات العمل الصحفي الطويلة سهلة أو بسيطة، فبحسب ما كتبه ابنها “إحسان عبد القدوس” أنها اضطرت لبيع سيارتها والذهاب يوميا على قدميها من وإلى مقر المجلة، ولم تكن تشتكي أو تتذمر، بل كانت دائما في “مهمة” عمل مستمرة وشاقة، من أجل الدفاع عن الحرية والديمقراطية والعدالة، وكان حلم أي صحفي شاب هو الحصول على فرصة للعمل في “روزاليوسف”، وكانت تعطي مساحات كبيرة لكل صاحب موهبة حقيقية، والأسماء بلا عدد ولا حصر.

– الحرية عند فاطمة اليوسف

لعل أكثر ما يعبر عن فكر ورأي تلك السيدة العظيمة في عمل الصحافة ودورها هو ذلك الخطاب القصير الذي كتبته إلى جمال عبد الناصر، في 11 مايو 1953 (وقد أورده الكاتب الصحفي محمد توفيق في كتابه “الملك والكتابة” صفحة 34) وهي الفترة التي شهدت توترا حادا بين قيادة الثورة والصحافة المصرية نتجت عنه مصادرات كثيرة لجرائد ومجلات، وكتبت “صاحبة الجلالة” تقول لقائد الثورة:

“إنك بحاجة إلى الاختلاف تماما كحاجتك إلى الاتحاد، إن أي مجتمع سليم يقوم على هذين العنصرين معا، ولا يستغني بأحدهما عن الآخر”.. “لا تصدق ما يقال أن الحرية شيء يمكن أن يباح في وقت ولا يباح في وقت آخر، فإنها الرئة الوحيدة التي يتنفس بها المجتمع ويعيش، والإنسان لا يتنفس في وقت دون آخر، إنه يتنفس حين يأكل وحين ينام وحين يحارب أيضا”

وكان ذلك هو المبدأ الذي عاشت به فاطمة اليوسف طول عمرها في الصحافة حتى رحلت عام 1958، وقد تركت علامة لا تمحى في تاريخ الصحافة المصرية.

نرشح لك: علامات صحفية| محمد التابعي.. أمير الصحافة المصرية