علامات صحفية| محمد التابعي.. أمير الصحافة المصرية

طاهر عبد الرحمن

تاريخ طويل وحافل، صعودا وهبوطا، عاشته الصحافة المصرية، منذ بدايتها الحقيقية منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، وعلى طول تلك المسيرة فإن معظم من عملوا بها حاولوا – كل بقدر استطاعته – أن يُطوروا المهنة، شكلا وموضوعا، ومنهم من نجح ومنهم من أخفق بحسب الظروف السياسية والاجتماعية، لكن يمكن القول بأن هناك مجموعة من الصحفيين الذين استطاعوا تأسيس مدارس صحفية كبيرة، كان لها الفضل في إرساء وتدعيم الصحافة، ونقلها تلاميذه، منهم من التزم بها ومنهم من أضافوا لها.

ويرصد “إعلام دوت كوم” من خلال هذه السلسلة التي ستكون بعنوان “علامات صحفية”، أبرز تلك المدارس الصحفية وتجارب أصحابها وأهم ما يميزها ويميزهم، وسنبدأ بأمير الصحافة المصرية محمد التابعي.

– محمد التابعي.. “حندس”

يدين محمد التابعي لثورة 1919، حيث أنه بسببها بدأ أولى خطواته في رحلته مع صاحبة الجلالة، وكانت البداية عندما قرر الطالب “محمد التابعي محمد وهبة” أن يرد على تقرير نشرته جريدة ‘الاجيبشيان ميل” اعتبره مسيئا بحق المصريين الذين كانوا يتظاهرون من أجل الاستقلال وكانت المفاجأة أن الجريدة نشرت مقاله، وبعدها استمر في الكتابة – باللغة الإنجليزية – مقالات لتلك الجريدة عن نفوذ الموظفين الإنجليز في الإدارة المصرية.

وبحسب ما أورده المؤرخ والكاتب الصحفى، صبري أبو المجد، في كتابه الضخم عنه، فإن الظروف شاءت أن تنشأ علاقة صداقة بين التابعي ورئيس تحرير تلك الجريدة الإنجليزية، وفي مساء أحد الأيام شاهدا سويا مسرحية “غادة الكاميليا” وكتب التابعي – باللغة الإنجليزية – نقدا شديدا لها في مجلة اسمها “سفنكس”، وهو ما لم يعجب أعضاء فرقة رمسيس، صاحبة المسرحية، وردت بمقال يهاجم الكاتب، وهو ما اضطر التابعي أن يكتب ردا على الرد في جريدة السياسة، جريدة حزب الأحرار الدستوريين، وباللغة العربية، وكانت تلك أول مرة يظهر اسمه في الصحافة المصرية.

 

بعد ذلك – عام 1922 – ظهرت مذكرات اللورد إدوارد سيسل، المستشار المالي للحكومة المصرية، وللمرة الثانية يشعر التابعي بالاستفزاز مما ورد فيها من سخرية واستهزاء بأعيان مصر ووزرائها، فقرر – لإجادته اللغة الإنجليزية – ترجمتها ليعرف الشعب المصري على ما يقال عنه، وكان أول كتاب يحمل اسم محمد التابعي.

لكن البداية الحقيقية للأستاذ التابعي كانت في جريدة الأهرام العريقة، حيث كتب لها مقالات في النقد المسرحي والفني لأكثر من عام، وكان يوقع باسم “حندس”، حيث كانت ظروف مهنته، كمترجم في مجلس النواب المصري، تمنعه من التوقيع باسمه الحقيقي، وهذه المقالات هي ما لفتت الأنظار إليه، حيث جاءت النقلة الكبرى مع السيدة فاطمة اليوسف التي قررت اعتزال الفن وتأسيس مجلة فنية تحمل اسمها.

– عشر سنوات في روزاليوسف

كان التابعي من أوائل الذين دعتهم فاطمة اليوسف للمساهمة في تحرير مجلتها الوليدة، ولم يتردد في الاستحابة، وإن ظل على خلاف دائم معها، حيث كان يريد أن يكتب بأسلوبه النقدي الساخر الذي عُرف واشتهر به وتحقق له ما أراد، خصوصا بعد الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها المجلة في بدايتها، واضطرارها لتغيير سياستها التحريرية.

لم يكن التابعي مجرد محرر أو ناقد مشارك في المجلة، بل كان – بكل الشهادات – واحدا من المشاركين في تحرير معظم موادها، وكان بشكل ما رئيس التحرير الفعلي (أو التنفيذي) لها، وكان يكتب مقالات فنية ونقدية، حتى تحولت المجلة إلى مجلة سياسية، وفيها كتب لأول مرة في الشأن السياسي.

في تلك السنوات، ومع الممارسة والتجربة المستمرة في روزاليوسف، تحددت ملامح مدرسة محمد التابعي الصحفية، وهي مدرسة تقوم على الجرأة في الانتقاد والنقد، والسخرية الشديدة باستخدام الزجل والرسم الكاريكاتوري، وهو ما طبقه فيما بعد عندما قرر تأسيس مشروعه الصحفي الخاص، في مجلة آخر ساعة، عام 1934.

هذه المدرسة كانت نتاج رؤية التابعي لنفسه ولمهنته، باعتبارها مهنة ذات قيمة تعطي ممتهنها سطوة وسلطة من نوع ما، باعتباره ممثل الرأي العام والمعبر عنه، ومن هنا كانت معاركه السياسية والصحفية التي قادته إلى السجن مرات وإلى الصدام مع السلطة والإدارة طول الوقت، وكان استقلاله المادي والمعنوي عن أي حزب أو جماعة هو مصدر قوته، فلم يكن مدينا لأحد أو واقعا تحت سطوة توجه سياسي معين، اللهم إلا رؤيته وموقفه كمصري وكصحفي في المقام الأول.

– أمير الصحافة بلا منازع

ربما يمكن القول أن محمد التابعي كان أول صحفي (أو جورنالجي كما كان يقال وقتها) يعيش من قلمه ومن عمله الصحفي، دون أن يكون له أي مصدر دخل آخر، وهو كان بالفعل دخلا كبيرا، كصحفي محترف وصاحب مجلة سياسية من الطراز الأول، وهو ما جعله يعيش في ترف، وهو أمر لا يعيبه أبدا، طالما أنه جاء من جهده وعمله وبدون استغلال أو فساد.

كان بالفعل “أميرا” وإن كان بالقيمة وليس يالوراثة، ولم ينس أبدا دوره أو وظيفته، على الرغم من اختلاطه وتداخله في وسط الأرستقراطية المصرية وقتها، وهو ما انعكس على كتاباته ومقالاته والأسلوب المتجدد الذي كان يكتب به، وهو – كما وصفه الأستاذ هيكل – بأنه “الأسلوب الحلو السلس”، والذي به تحررت الكتابة الصحفية من أساليبها العتيقة وأصبحت أكثر عصرية وحداثة. ولكن – للإنصاف – فإن طريقة حياته كان لها تأثيرها عليه وإن كان ذلك أمر شخصي لا علاقة لنا به.

– مؤلفات وكتب التابعي

على الرغم من التجربة الطويلة والمثيرة التي عاشها التابعي من عشرينيات القرن العشرين حتى نهاية السبعينيات، إلا أنه كان مُقلا في إصدار الكتب بشكل مباشر، ومع أن قائمة ما أصدره تضم 13 كتابا، إلا أن معظمها كتبا قصصية وأدبية، ما عدا كتابين له (هما: من أسرار الساسة والسياسة، وأسمهان تروي قصتها) لهما قيمتها التاريخية، وربما من هنا يجب أن تتولى جهة ما تجميع مئات ومئات المقالات التي كتبها في جرائد ومجلات مصر وإصدارها في كتب، لما فيها من أهمية كبيرة في رصد أحوال المجتمع المصري على كل المستويات، وأيضا في تطور الصحافة المصرية في القرن العشرين.

نرشح لك: مذكرات هاني شنودة لـ مصطفى حمدي.. أول إصدارات دار ريشة