"السياسات المنظمة للإعلام".. دراسة جادة لتطوير المشهد الإعلامي المصري

إسلام وهبان

أصبح مفهوم “تنظيم الإعلام” أمرا ضروريا خاصة بعد التطور التكنولوجي الهائل الذي يشهده العالم وتأثيره على النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية للدول، كذلك التغير الكبير الذي شهدته منطقة الشرق الأوسط منذ عام 2011، والتخبط الشديد في المشهد الإعلامي كل ذلك جعل المطالبة بوضع سياسة واضحة وشفافة للعمل الإعلامي وضرورات تنظيمه بصورة مواكبة لمتغيرات العصر أمرا غاية في الأهمية، كذلك التعرف على النماذج الناجحة والرائدة في ذلك المجال، ومحاولة تطبيق سياسات تلائم البيئة والثقافة المصرية، وتجعل المشهد الإعلامي أكثر ثراء وانضباطا، وهذا ما حاولت دكتورة رشا علام، مساعد رئيس قسم الصحافة والإعلام بالجامعة الأمريكية، التركيز عليه وتناوله في كتابها “السياسات المنظمة للإعلام” الصادر حديثا عن دار نهضة مصر، وتحديد السياسات التي من شأنها تطوير المشهد الإعلام المصري.

الكتاب يتناول تنظيم الإعلام سواء المسموع أو المرئي، ونشأته، ومفهوم المسئولية المجتمعية، وإعلام الخدمة العامة، والتعرف على نماذج السياسات التنظيمية للإعلام بعدد من دول الشرق الأوسط، فضلا عن تناول التنظيم الإعلامي لعدد من دول أوروبا الشرقية والغربية ومراحل تطورها، كما تناول الكتاب بالسياسات والتشريعات المنظمة للإعلام في مصر بالتحليل والنقد والتعرف على أهم التحديات والفرص التي تواجهه.

ففي مقدمة الكتاب التي شارك في كتابتها أسامة هيكل، وزير الإعلام المصري، يقول إن “السياسات المنظمة للإعلام” التي أعدتها د. رشا علام، تتوافق بنسبة تزيد عن 90% مع السياسة الإعلامية التي أعدها من قبل لوزارة الإعلام وطرحها على السيد رئيس الجمهورية ووافق عليها، ويرى أن هذا الكتاب يضع نقاط على حروف كثيرة، وسيفتح المجال واسعا للعديد من المناقشات الجادة والهامة لتطوير الإعلام المصري.

– مفهوم المسئولية المجتمعية بين الحرية المطلقة وتغول السلطة

يأتي الفصل الأول من الكتاب تحت عنوان “تنظيم الإعلام المسموع والمرئي”، ويتناول مراحل نشأة وتطور الإعلام وأوجه تنظيمه الثلاثة (التقني – المؤسسي – تنظيم المحتوى)، ثم الحديث عن تنظيم الإعلام في ضوء المسئولية المجتمعية، وما هي التحديات التي تواجه هذه المسئولية، فالإعلام لا بد أن يخدم الجمهور لا السلطة ولتحقيق ذلك يجب أن يتحرر الإعلام من القيود الحكومية، وإتاحة المعلومة للجمهور، ولكن هذا التحرر يجب أن يصب في خدمة الجمهور وليس لخدمة مصالح شخصية أو توجهات سياسية بعينها، كما يوضع الكتاب أهم مبادئ نظرية المسئولية الاجتماعية، والتي توفر إعلام قادر على تلبية احتياجات الجماهير بشكل يضمن التعددية وحرية الرأي والمصداقية، ويكون إعلام خدمة عامة وليس إعلام حكومي.

– بين التنظيم الإعلامي بدول الشرق الأوسط ودول شمال وغرب أوروبا

يتناول الكتاب بالفحص والتدقيق والتحليل في الفصل الثاني والثالث والسادس، نماذج للتنظيم الإعلامي ومراحل تطوره في عدد من دول الشرق الأوسط ونظيراتها في دول شرق وغرب أوروبا، ليس فقط للمقارنة بل للتعرف على الموقف الحالي والفوارق الجوهرية في السياسات المنظمة للإعلام بين دول الشرق الأوسط وأوروبا، والتي تعزز فرص تطوير الإعلام واختيار سياسات ملائمة للشأن المصري.

ففي الفصل الثاني عرضت الدكتور رشا علام بشكل وافٍ التنظيم الإعلامي لعدد من الدول العربية مثل لبنان والإمارات والمملكة العربية السعودية والعراق والأردن وتونس والجزائر والمغرب، فضلا عن عدد من دول مجاورة كتركيا وإسرائيل، والتي رغم الاختلاف في الظروف الاقتصادية والسياسية إلا أنها تواجه جميعها تحديات كبيرة سواء في تطبيق وتنفيذ سياسات من شأنها الارتقاء بالإعلام وضمان حرية الرأي والتعبير، أو وضع سياسات لا تتسم بالغموض في بعض مفاهيمها وآليات تنفيذها، والبحث عن سبل استقلال الهيئات المنظمة للإعلام.

أما الفصلان الثالث والسادس فيتناولان سياسات تنظيم الإعلام الدولية وطرح نماذج لعدد من الدول في شرق وغرب أوروبا المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا والتشيك، وكيف تطور مفهوم تنظيم الإعلام وآليات تقديم إعلام حر يحترم الجمهور ويوفر المعلومات بشكل كبير، وكيف مكنت التشريعات الجهات والهيئات المنظمة للإعلام على الاستقلالية الإدارية والمالية، وتطبيق سياسات أدت إلى الارتقاء بالمحتوى المقدم وتنوعه وخلق حالة من التنافسية ومواجهة الاحتكار، مع وضع ضوابط عديدة لمواجهة خطاب الكراهية والعنف.

– الترخيص والبرمجة
يتناول الفصل الرابع من كتاب “السياسات المنظمة للإعلام”، ضوابط ترخيص وبرمجة الإعلام المسموع والمرئي، وشروط الترخيص وما يتضمنه من بنود، كذلك التزامات البرمجة والأكواد والترددات التي يجب تحديدها وعقوبات عدم الالتزام. وطرق الإعلان عن الرخصة وكيف تتم عملية الاختيار.

كما يتعرض الكتاب لضوابط تصنيف المحتوى المقدم للجمهور وذلك لحماية الشباب وليس لفرض نوع من الرقابة أو الخظر بل لتنظيم المحتوى وعرضه في الأوقات المناسبة.

– إعلام الخدمة العامة

يعد إعلام الخدمة العامة “PSB” بمفهومه الشامل أحد أهم الآليات التي تعمل على الارتقاء بوعي ومعرفة الجماهير وبالتالي زيادة دورهم في المشاركة السياسية والاجتماعية، لذا يجب على قنوات الخدمة العامة تقديم محتوى متوازن وبمصداقية عالية وتنوع كبير، وأن يتمتع بالاستقلال الإداري والمالي، الأمر الذي يضع أمام العديد من دول الشرق الأوسط أمام تحديات كبيرة لتحويل الإعلام الحكومي إلى إعلام الخدمة العامة.

ويناقش الكتاب أبرز الأزمات التي تواجه إعلام الخدمة العامة، من حيث التمويل والهيكلة والمهام المنوطة به، كذلك التعرف على خصائص إعلام الخدمة العامة، كما تقدم دكتورة رشا علام مقترحات لإنجاح عملية تمويل إعلام الخدمة العامة وسبل تطويره داخل مصر، مع التأكيد على مفهوم الحوكمة الإعلامية والإدارة الرشيدة.

– الخدمات الرقمية وضبط منصات التواصل الاجتماعي

يضم الكتاب بين طياته فصلا عن التطور التكنولوجي وخدمات الإعلام الرقمي وأبرز التحديات التي تواجه الخدمة الرقمية، وكيف تمكنت الدول الأوروبية من تقديم سياسات للاستفادة من مميزات الخدمات الرقمية ووضع قواعد لضبط البث الرقمي بدلا من البث التماثلي.

وفي الفصل السابع يأتي تنظيم محتوى شبكات التواصل الاجتماعي، والجدل المثار حول ما تقدمه هل مواجهتها من خلال المنع وفرض عقوبات أم تقديم منصات منافسة تكون أكثر مصداقية وتوفر المعلومات بشكل أسهل للجمهور. ويعد هذا الفصل أحد أهم الفصول بالكتاب لما تشغله شبكات التواصل الاجتماعي من أهمية وخطورة على المشهد الإعلامي والسياسي والاقتصادي، ووجود شكوك كثيرة في نزاهة ما تقدمه من معلومات والجهات المستفيدة من بياناتها؛ فيقدم الكتاب التدابير والسياسات والأطروحات التي تقوم بها الدول الأوروبية حاليا أو تنوي تنفيذها مستقبلا لضبط المحتوى عبر هذه المنصات والتشريعات التي من شأنها ضمان سلامة مواطنيها وحمايتهم من أي خطاب يدعو للعنف أو الكراهية.

– السياسات المنظمة للإعلام في مصر.. تحديات وفرص

عند الحديث عن تنظيم الإعلام في مصر لا بد من معرفة تاريخ السياسات المنظمة للإعلام، وكيف تطور المفهوم منذ ظهور محطات الراديو حتى وقتنا الحالي، وتقييم الوضع الراهن ومدى قدرة السياسات المنظمة للإعلام على ضبط المشهد الإعلامي وتلبية احتياجات الجمهور، ولقد شهدت السنوات الأخيرة تطورا كبيرا في مفهوم تنظيم الإعلام خاصة بعد صدور قانون 178 لعام 2018 والخاص بتاسيس الهيئة الوطنية للإعلام وإعادة هيكل اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وقانون 179 لعام 2018 لتأسيس الهيئة الوطنية للصحافة، وقانون تنظيم الصحافة والإعلام وتأسيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام رقم 180 لعام 2018. ويضم الكتاب في ملحقه نص قانون 180 لعام 2018 بكافة أبوابه لتعريف القارئ به وبكل بنوده، حتى لا يكون القارئ بمعزل عن نص القانون والتعرف على كافة جوانبه ومقتضياته.

– المقترحات والتوصيات

لا تقدم مؤلفة الكتاب عرضا وتحليلا للسياسات المنظمة للإعلام في مصر ونماذج لدول الشرق الأوسط وشرق وغرب أوروبا فحسب بل تقدم في نهاية كتابها عدد من المقترحات والتوصيات في محاولة جادة لجعل السياسات المنظمة للإعلام أكثر فاعلية ولتحقيق الاستفادة القصوى للجهات المنظمة والتي من شأنها رفع جودة المحتوى الإعلامي المقدم للجمهور وضبط المشهد الإعلامي بكفاءة وحرفية، وذلك من خلال تقديم مقترحات لمواجهة الأزمات التي تواجه الهيئة الوطنية للإعلام، والتغلب على التحديات المالية وإعادة الهيكلة، وكيفية تقديم إعلام الخدمة العامة بشكل أكثر تأثيرا، كذلك الحفاظ على حقوق الإعلاميين، وحقوق الجمهور.

“السياسات المنظمة للإعلام” بمثابة مرجع للمهتمين بالشأن الإعلامي والمسئولين عن تنظيم المشهد الإعلامي ووضع السياسات، وكمان أنه يقدم خريطة لرصد المشهد الإعلامي بالعديد من دول العالم على اختلاف ظروفها السياسية والاقتصادية، وفي الوقت ذاته فهو يعد تأريخا مبسطا للمشهد الإعلامي وتطوره في الشرق الأوسط ومراكز القوى في أوروبا، مما يتيح للباحثين في مجال تنظيم الإعلام أفق واسعة والتعرف على خبرات وتجارب متعددة، ويفتح الباب لكثير من النقاشات حول تنظيم الإعلام في مصر وسط التغيرات العالمية المتلاحقة.