خالد صالح.. الفنان الصالح لكل الأدوار

إسلام سيد

سلطان الغرام وتاجر السعادة وقنصل السينما، على الرغم من قصر عمره الفني إلا أنه صنع بصمة فنية فريدة ونقلة في تاريخ السينما والدراما، قدّم خالد صالح 23 فيلماً و15 مسلسلاً خلال رحلته الفنية قصيرة المدى الزمني عظيمة الصدى الفني التي استمرت 14 عاماً، وصل فيها إلى قلوب المشاهدين في الوطن العربي واستطاع أن يحفر اسمه بين العظماء. لذا يرصد إعلام دوت أورج أهم السمات المميزة لمسيرة خالد صالح الفنية التي اتسمت بالتميز والبساطة في آن واحد.

(1)

موعد مع القدر

ظل خالد صالح لسنوات يطارد حلمه وشغفه بالتمثيل بدأب وإصرار، فكان بداخله صراع بين التزاماته المادية كأب وزوج وبين حلمه باحتراف التمثيل كمهنة أساسية، حيث عمل في مصنع حلويات امتلكه شقيقه الأكبر واعتاد التأخير دائماً عن مواعيد العمل فهو فاقد لشغفه، مما تسبب في غضب أخيه الأكبر بسبب تأخره عن فتح المصنع وتعطيله للعمال لمدة ساعتين، ليفصله عن العمل. هنا يحسم خالد صالح الصراع بين المهنة والهواية، ويقرر أن يضع لنفسه مهلة سنتين، كي يحترف التمثيل، فإن لم يجد الفرصة، سيعود إلى العمل بالمصنع، وبالفعل أسعفه القدر وفتح له الطريق في آخر شهر متبقي من المهلة، إذ أعطاه المخرج محمد ياسين دور القاضي في فيلم “محامي خلع”، ليلفت أنظار المنتجين إلى موهبته وحضوره المميز، فكان بمثابة الشرارة الأولى ونقطة الانطلاق في مشواره الفني.

(2)

الشخصية الرمادية

خرج خالد صالح وخالد الصاوي من الصورة النمطية للشرير التي تم تقديهما في حقبة الأبيض والأسود، دراما البطل ونقيضه، الصورة النمطية للشرير التي ترسم الشرير بتفاصيل بارزة مثل العلامة أو الجرح في الوجه، والضحكة المتقطعة الرنانة والنظرة الخبيثة تلك التفاصيل التي ما إن تراها حتى تعرف من الوهلة الأولى أنه الشرير، ما جعلها الآن تشبه أفلام الرسوم المتحركة في طريقة تناول الشخصية.

مثّل “الخالدان” التطور الدرامي لصورة الشرير في عصر التلفزيون الملون، ليحدثا نقلة نوعية في أداء أدوار الشر، فصنعا شخصية واقعية ليست بيضاء تماماً، وليست سوداء تماماً، الشخصية الرمادية التي تجمع بين المتناقضات؛ الخير والشر، الحب والكره، القسوة والضعف، الأدوار المركبة التي تفرد في تقديمها ببراعة، مثل عمر حرب الشيطان في صورة إنسان في فيلم “الريس عمر حرب”، وحاتم المستبد الظالم عندما يهزمه عشق امرأة في “هي فوضى”، وكمال الفولى رمز الفساد.

وتظهر عبقريته في تجسيد الأدوار المركبة في آخر مشهد من فيلم “هي فوضى” فليس من المنطقي أن يتعاطف المشاهد مع حاتم الذي ارتكب الجرائم وتسبب في مآسي باقي شخصيات الفيلم، فهذا المشهد كما يدعى “ماستر سين”، لذلك شدد يوسف شاهين على التركيز التام في المشهد، وأكد أنه لن يرضى بأقل مما يريد، وعندما بدأ التصوير نجح خالد صالح في المهمة شبه المستحيلة، ليقول له يوسف شاهين بعد التصوير “لقد أديت المشهد أعظم مما أردت”.

(3)

ممثل حتى النخاع

عشق تفاصيل المسرح، وتعمق في عالمه الخاص، فقال: “المسرح هو أستاذي الذي علمني استخدام صوتي وجسمي في هذا الفراغ “، مسرح الجامعة ومسرح الهواة ومسرح الهناجر محطات شكلت شخصيته الفنية المميزة، فمن أهم مسرحياته “أنطوريو وكيلو بطة” 1998 و”الميلاد” 1997 و”طقوس الإشارات والتحولات” 1996 و”الغفير فلسطين” إخراج وجدي العربي 2001.

في أولى أدواره التلفزيونية في مسلسل “أم كلثوم” 1999، جسد شخصية مأمون الشناوي ليقول عنه الناقد طارق الشناوي: “فوجئت عندما رأيته يعيد عمي مأمون الشناوي إلى الحياة، فقد عايشته 20 عاماً، وعرفت جميع تفاصيل شخصيته التي تقمصها ببراعة مذهلة”، علماً بأنه لم يقابله أو يراه من قبل، وإنما استدعى روحه من خلال صورة قديمة له استعان بها في تجسيده وفك شفرات شخصيته التي اندمج معها بشكل ملفت للأنظار، فهو يقوم بـ”جمع أشلاء الشخصية” على حد تعبيره، ليصل إلى حالة التقمص الكامل. إذ يقوم بالغوص في أعماق الشخصية ومعايشة تفاصيلها النفسية والجسدية، فأثناء تجسيده لشخصية “الشيخ مصباح” في مسلسل “تاجر السعادة” لاحظ مدير أعماله الفنان أحمد فهيم وجود هالة رمادية في عينيه، فاندهش من وصوله لهذه الدرجة من التقمص.

وذكر أنه في شبابه كان يجلس في محطة الأتوبيس يشاهد الناس، ليستحضر الوجوه والشخصيات ويستدعيها عندما يقف أمام الكاميرا، كما تعلم الإسكواش في نصف ساعة فقط ليؤدي مشهدًا واحدًا في فيلم “تيتو”.

كان خالد صالح يتعامل مع الأدوار التي يقدمها بحالة صارمة من الإتقان وعدم الاستسهال، بالإضافة إلى طاقته الفنية التي تتخطى مساحة الدور سواء بطولة أو دور ثاني أو حتى مشهد واحد، فقد امتلك موهبة تجعل للدور الذي يؤديه جاذبية خاصة وإشعاعاً جذاباً يطغى على العمل ككل، فشخصية “إبراهيم” رغم صغر حجم الدور في فيلم “أحلى الأوقات” إلا أن حضورها طغى على الفيلم بأكمله، فأول ما يتبادر إلى ذهن المشاهد عند ذكر اسم الفيلم هي جملة “عايزه ورد يا إبراهيم”.

عادة “اللازمة” وهي الجملة التي تعلق في أذهان المشاهد تكون نتيجة تكرارها باستمرار، لكن “اللازمة” التي تطلقها شخصيات خالد صالح يكفي أن تقال مرة واحدة بأداء منقطع النظير لتعلق في ذاكرة المشاهد وتطغى على الشخصية والفيلم بأكمله، مثل اللازمة الشهيرة “أنا بابا يلا” في فيلم تيتو، فأداء خالد صالح وإلقاءه للحوار يجعل منه جملاً استثنائية تخلد في ذاكرة السينما المصرية.

(4)

أستاذ فن المونولوج الدرامي

كان لفن المونولوج الذي اكتسبه من جذوره المسرحية أثر عميق في أداءه للأدوار المعقدة، فن المونولوج المسرحي هو العنصر الذي يتيح للشخصية المسرحية أن تفصح عن دخيلة نفسها، لتكشف عن مشاعرها الباطنية، وأفكارها، وعواطفها، وكأنها تفكر بصوت مسموع، ويلجأ الكتّاب المسرحيين إلى هذه الطريقة في التشخيص بالمونولوج، مثل المونولوج الشهير “أكون أو لا أكون” في مسرحية “هاملت” لشكسبير.

تظهر براعته في هذا الفن في أداء شخصية عمر حرب الذي من المفترض أنه الشيطان في صورة إنسان، إذ يقدم نموذج لمونولوج عبقري يجسد كيف يتحدث الشيطان عن نفسه، وأيضاً في مسلسل “فرعون” الذي تقوم رسالته الدرامية على فكرة أن لفرعون موسى وجوه عديدة وأشباه كثيرون، فقوم موسى ليس فقط من غرقوا معه، بل كل من يمشي على خطاه، ليرسم صورة لفرعون في القرن الواحد والعشرين، كيف يفكر وكيف يتحدث وكيف تكون نهايته المشابه لنهاية فرعون موسى.

(5)

السيرة أطول من العمر

جنازة خالد صالح كانت ثورة حب عارمة، حب الناس منحة إلهية لا يستطيع أحد امتلاكها بموهبته ولا قوته ولا ذكائه، وإنما يعطيها الله لمن يشاء. ذكر المؤلف محمد نبوي موقفاً إنسانياً لخالد صالح مع سائق تاكسي، إذ روى أن خالد صالح ذهب ليسحب 40 ألف جنيه من البنك، وتأخر السائق الخاص به، فركب تاكسي، كان سائق التاكسي كبير في السن ولم يتعرف عليه، فتحدث معه وفُتح باب الحديث بينهما، ليشتكي له من الحال وأنه يصرف كل ما يتحصل عليه من العمل على علاج زوجته وعمل غسيل كلوي لها، فنزل من التاكسي وترك له المبلغ كله على الكرسي.

وحكى الكاتب تامر عبد رب النبي أنه في أحد الأيام فوجىء بمكالمة من خالد صالح يسأله عن أحد العمال الذين تركوا العمل في مصنع شقيقه، واتصل به شاكياً من ضيق الحال، فطلب منه أن يوصله بهذا العامل، فأخبره أن يعرف بيت هذا العامل في الجيزة، فاصطحبه إلى هناك ليكتشفوا أنه غيّر مسكنه، ووصلوا إليه بعد رحلة بحث شاقة، ليجدوه مريضاً لا يقوى على العمل الشاق فعرض عليه خالد أن يقوم بإيجار محل قريب له، لكنه أخبره أن المحلات التزاماتها كثيرة وأنه يريد عربة فول بسيطة، ليصطحب خالد صالح تامر على الفور لشراء عربة فول رغم أن تامر قال له: “انهارده عيد والناس أجازة”، لكنه أصر قائلاً: “مش هجيب له عربية خشب، هحضرله سيارة نقل سوزوكي مستعملة عشان ما تاخدهاش البلدية، وتنفع عياله لو حصل له حاجه”. وبالفعل بحث عن سيارة نقل صغيرة في منطقة الفرنساوي بمصر القديمة، وعثرا على إحداها بمنطقة البلوك خلف مستشفى هرمل وكتبا عقدها الابتدائي ووصى سمكري أن يسجلها باسم الرجل بعد العيد، وسلّمه السيارة بالإضافة إلى مبلغ لتجهيزات العمل، واختتم كلامه قائلاً لتامر: “مفيش حاجة تستحق السرعة والاستعجال في الدنيا دي إلا عمل الخير”. وبالفعل نفّذ خالد صالح مقولته حرفيًا فعاش “صالحًا” ومات “خالد” الذكر.

أحمد خالد صالح: أصبحت أعيش في جلباب أبي

شاهد| نهايات مأسوية.. عمر خورشيد قتلته السياسة