منى سلمان تكتب: الأستاذ زكي.. سبب عشقي للغة العربية

عندما طلب مني الزميل إسلام وهبان المشاركة في هذا الملف الذي هو عن “الأستاذ”، بأن أختار أحد أساتذتي لأكتب عنه أصابتني الحيرة ولم أعرف ماذا أكتب ومن أختار، فالحقيقة أن في رقبتي ديونا كثيرة لأساتذة ترك كل منهم بصمته في روحي وساهم في أن أصبح ما أنا عليه، بصرف النظر بالطبع إن كان ما أصبحت عليه جيدا أم لا.. لكن حرصي على أن أكون مصدرا لفخرهم قاد ولا زال يقود خطواتي الصغيرة ولم يسمح لي باليأس في لحظات الفشل والخسارات.

الحقيقة أنني قررت أن أتمادى في استغلال كرم الزميل إسلام والأستاذ محمد عبد الرحمن رئيس التحرير إلى النهاية، وأستغل الفرصة لتسديد بعض من ديوني الكثيرة بالكتابة عن أكثر من أستاذ واحد.. لا أعرف متى سيبدأ الزملاء في موقع إعلام دوت أورج في التذمر وربما الإمساك برقبة إسلام واليوم الذي اقترح فيه هذا الملف الذي فتح عليهم هذه الفتحة التي لا يعرفون سدها، وأقول لهما “إنك قد تختار البداية أما النهاية فموضوع آخر!!” 😊
أو ربما بعد أن تعجبني الحكاية وأجدها مفيدة في شغل فراغ لم أعانِّ منه من قبل، وأطورها إلى كتاب مثلا أجد محمد وإسلام يقفان ببابي مطالبَين بحقهما باعتبارهما شريكين بالتحريض! لذلك فإنني أحذرهما من الآن أن حقهما لن يتجاوز الشكر والتقدير المعنوي، فحتى “نكون على نور من الأول” وكما تعرفون فإن الكتابة لم يعد يعول عليها كمصدر لجني المال، الحقيقة أنها لم تكن كذلك أبدا في بلادنا، ومؤخرا انضمت إليها مهنتنا التي -وإن كانت بلا قلب- فإن لها عقلا يعرف جيدا الفرق بين الخلصاء والمدعين، ومع ذلك تصر على معاملتنا بالطريقة التي عامل بها الملك لير ابنته كورديليا التي رأت أن حبها له أوسع من الكلمات وأصدق من التملق الذي اختارته أختاها، فكان نصيبها النبذ والحرمان من جنة أبيها! على الأقل يبقى الأمل في بقية القصة كما رواها شكسبير.

نرشح لك: محمد عبد الرحمن يكتب: الأستاذ محمود عوض

“قومي اقرأي يا منى بصوتي الجهوري..”
لم أكن بالطبع أعرف معنى كلمة “جهوري” لكنها بدت مهمة وفخيمة ومشجعة وهو ينطقها. كنت أطول قليلا من زميلاتي في الفصل، وكان صوتي يبدو أجشا مقارنة بأصواتهن الرقيقة الطفولية: الأمر الذي دفعني للخجل والانطواء والجلوس في المقاعد الخلفية بحكم قاعدة “الطويل ورا والقصير قدام”، لكنه بشكل ما استطاع أن يدفع ثقتي بنفسي.

الأستاذ زكي الصعيدي الأسمر الدرعمي، كان سماره وملامحه ولهجته القاهرية التي لم تنجح سنوات الحياة في العاصمة أن تخلصها من جرسها الصعيدي الواضح والمحبب تماما مثل أبي، ولا أعرف إن كانت هذه اللهجة تحديدا هي ما أشعرتني بالألفة وذكرتني بالمحبة الخالصة التي اغترفت منها من جدي وجدتي في الصعيد باعتباري الحفيدة الأولى والمفضلة، ولا أعرف أيضا حتى الآن إن كانت هذه الألفة التي انتقلت عبر ملامحه ولهجته ودفء الحكايات التي تخفف المناهج الجامدة هي ما شكلت العلاقة الأولى التي أوقعتني في غرام اللغة العربية التي يدرسها لنا الأستاذ زكي.

“لديك سليقة لغوية”.. عبارة أخرى لم أفهمها لكن وقعها هو ما شجعني على أن أتمادى في قبول التحدي الذي كان يضعني فيه في درس الدين في محاولة لفهم المعاني وفق قواعد لغوية لم ندرسها بعد، فلا زلنا في الصف الخامس، لكن الأستاذ الأزهري النشأة المتخرج من دار العلوم كان يغدق علينا من حدائق اللغة، لتصبح هذه التحديات اللغوية هي إحدى ألعابي المفضلة، على الأقل حتى لا أخذل الأستاذ زكي الذي كان يتحدى بي زوار الفصل وزملائه مدرسي المواد الأخرى.

كان ابنه أحمد زميلا لنا في الفصل، وعلى عكس ما كان مألوفا بالنسبة لزملائنا “أولاد الأبلوات والأساتذة” لم يحظ أحمد بأي معاملة تفضيلية من والده أو من مدرسي المواد الأخرى، فلم يكن مثلا في فريق الموسيقى الذي جمعت فيه أبلة سيدة بنات وأبناء زملائها، ربما يكون ذلك بناء على طلب الأستاذ زكي الذي لم يتورع عن عقابه عند أي خطأ مثل الجميع.. الاستقامة وعدم المحاباة كانتا درسين مبكرين أيضا من الأستاذ زكي.

نرشح لك.. فاطمة خير تكتب: أمينة النقاش ونبيل زكي.. شكرا

ربما كنت التلميذة الوحيدة التي لم تتعرض للعقاب الذي يتراوح بين التعنيف أو الضرب بالعصاية على راحتي اليدين إلى السخرية الموجعة التي ينتقي ضحاياها من التلاميذ الذين يتجاوبون معها دون أن تترك جراحا عميقة، على الأقل في الظاهر؛ لذلك لم أصدق نفسي وهو “يشخط” فيَ بعنف لم أعتده منه عندما قررت المدرسة أن يقدم كل فصل الإذاعة المدرسية في كل يوم وجاء دور فصلنا ورفضت أن أشارك.. انهمرت دموعي وأنا لا أصدق أن الأستاذ زكي ينفعل علي ويصر أن أشارك في اليوم التالي مباشرة، ويرفض حتى أن يسمعني… ثم إنني لا أعرف ما يمكنني أن أقوله، هو لم يحدد لي وليس لدي من أسأله والوقت ضيق!

لم تكن مكتبتي الفقيرة وقتها قادرة على تقديم الحلول، فتوقفت أمام مقطع في الكتاب المقرر على الصف الثالث الإعدادي الذي أخذته من قريبة تكبرني.. غادة رشيد تأليف على الجارم. توقفت أمام مقطع أعجبني تخيل فيه الكاتب الأهرامات وهي ترد على نابليون عندما قال لجنوده أثناء الحملة الفرنسية ليحمسهم: “إن أربعين قرنا من الزمان تنظر إليكم”.. أحببت المقطع وحفظته عن ظهر قلب، وفي اليوم التالي كان الأستاذ زكي يمسك الميكرفون بيديه لأن يديَ ترتعشان وركبتي تخبطان في بعضهما، ولم أعرف كيف خرج صوتي الذي أصبح وحيدا تماما بعد أن عم الصمت طابور الصباح في المدرسة… ثم انفجر التصفيق من الجميع الذي لم أفهم سببه!

إذا كانت الأقدار يمكنها أن تتغير في لحظة واحدة، فقد كانت هذه اللحظة التي تغير فيها قدري، اللحظة التي قابلت فيها الفتاة الأخرى التي تسكن معي في جسدي.. فتاة مختلفة، واثقة، لا تظهر إلا مع النور الأحمر المنبعث من الميكرفون في الإذاعة المدرسية أو المسرح أو استديو الإذاعة أو التلفزيون، ولا علاقة لها بالفتاة السمراء الخجولة التي تختبئ وراء الشيش في حجرتها حتى لا تقابل الضيوف لأنها لا تعرف ماذا يمكنها أن تقول.

كانت المرة الأولى التي اسمع فيها عن مجلة العربي ومجلة الدوحة من الأستاذ زكي، وأصبحت مولعة بقراءة ما تيسر وقتها من كتب التاريخ واللغة، وتبدأ علاقتي بالصحافة وهنا تظهر أبلة كوثر، وهذه بالطبع قصة أخرى.

لظروف عائلية لم أستطع زيارة مدرستي الابتدائية، مدرسة السيدة خديجة بعد حصولي على الابتدائية، ولم تكن لديَ أي فرصة لأخبر الأستاذ زكي عن امتناني له واعترافي بفضله، سمعت بعدها بسنوات قليلة أنه توفي، مؤكد أنه لم يعرف أبدا الأثر الذي تركه في حياتي، وبقي في قلبي الإحساس بالتقصير نحوه…

ادعوا له بالرحمة وتذكروا أساتذتكم

لا أحد ينجح بمفرده.. ملف خاص عن “الأستاذ”