وليد علاء الدين يكتب: أساتذتي الأعزاء.. شكرا

تقول معاجم اللغة العربية إن الأستاذ لقب لمن يُمارِس تعليم علم أو فنّ، أو لمن هو ماهرٌ في صناعة يعلِّمها غيرَه. والكلمة كذلك لقب علمي جامعي، ولقب احترام يُطلَق عادة على المثقَّفين، وقيل إنه لقب لا يستحقه إلا من جمع ثمانية عشر علمًا، والبعض قال اثني عشر علمًا هي النحو والصرف والبيان والبديع والمعاني والآداب والمنطق والكلام والهيئة وأصول الفقه والتفسير والحديث.

نرشح لك: عماد العادلي يكتب: “الأستاذ أبو بكر” وأول درس في النقد

وأستاذ لفظ معرب عن الفارسية وأصله “اُستاد”.وأيًا كان أصله أو ما قالته المعاجم عنه فإن كلمة “أستاذ” ارتبطت في أذهاننا جميعًا بالمعلم الرجل في مراحل التعليم قبل الجامعي، لأن المعلمة في مصر –أقصد على زماننا- اختصت بلقب “أبلة” قبل أن تتحول إلى “ميس” في زمان أبنائنا. ولأن لقب “دكتور” ارتبط بأساتذتنا في مرحلة التعليم الجامعي حتى للمعيدين ممن لم يححصلوا على درجة الدكتوراه، أو للأساتذة ممن هم أرقى في الدرجة من الدكتور.وعليه، فإن كلمة “أستاذ” لمن هم في جيلي، وربما من سبقنا، ارتبطت بمراحل الطفولة والمراهقة، وحملت بين ظلالها ما حملت من انطباعات تركها –إيجابًا وسلبًا- كل “استاذ” بطريقته وشخصيته. فإذا ما قلت لبعض أبناء جيلي كلمة “أستاذ” وانتظرت برهة لارتسم في خيال كل منهم صورة تختلف عن الصورة التي داعبت مخيلة الآخرين لاختلاف شخصيات الأساتذة ولاختلاف الموافق والطرائف والخبرات التي جمعت كل شخص بأستاذه.

نرشح لك: وليد علاء الدين يكتب: النقد كما ينبغي أن يكون

وإن أنسى –لا أنسى- أستاذي للغة العربية في الصف السادس، الأستاذ إبراهيم سمية، في مدرسة “الشهيد أبو العينين سمية الابتدائية” التي تحمل اسم قريب له من أبطال حرب أكتوبر، عندما أتذكره الآن يحضر في خيالي ببذلته الكاملة وأدائه الوقور وبسمته الهادئة وعصاه القصيرة التي لا أذكر أنها استخدمها قط لا معي ولا مع غيري من زملاء وزميلات الصف، ولا أنسى له كلماته التي كتبها لي بخطه المنمق الجميل على دفتري: “المرء بأصغريه، قلبه ولسانه”.

في المرحلة نفسها، يحتفظ بمكانة في ذاكرتي معلم الحساب الأستاذ أحمد ريحان، ببذلته الأنيقة كذلك، وبورقة النتيجة (التقويم) التي لم تفارق أجندته الجلدية يومًا، مثبتة في غلافها الداخلي، والتي لم أعرف سرها إلا حين سقطت ذات مرة منه، ولحقته بها بعد أن غادر الفصل، فالتقطها مني بحرص وأعادها إلى الأجندة، وغادرني حزينًا بلا كلمة، فاعتذر عنه أستاذ حضر الموقف، وقال إنها تاريخ وفاة أحد أحبابه، أظنه قال إنه والده. أندهش الآن ليس فقط من رقّة هذا الرجل، ولكن من أدب الأستاذ الآخر الذي لا يحضرني اسمه للأسف، الذي اهتم بأن يعتذر لي نيابة عن زميله الذي سهى -في غمرة حزنه- عن شكري على معروف صغير أسديته له. في تلك المرحلة أيضًا، ويبدو أنها الأكثر ثراء في حياتي، وأظنها كانت السنوات الأخيرة -ثمانينات القرن العشرين- التي ظل التعليم فيها في مصر محتفظًا ببعض بريق الماضي قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

نرشح لك: وليد علاء الدين يكتب: واقعة “محمد الشناوي” ثقافيًا!

في تلك المرحلة يتجلى في ذاكرتي الأستاذ “ماهر” ولا أعرف اسمه الآخر، مدرس موسيقى شاب ظهر فجأة في مدرستنا التي كان بها غرفة موسيقى بلا مدرس ولا نشاط، تحتوي على الكثير من الآلات التي ظلت معطلة إلى أن ظهر الأستاذ ماهر الذي يشبه في قوامه وملامح وجهه الفنان علي الحجار، فدب النشاط في غرفة الموسيقى، كان الأستاذ يعزف على الأكورديون بمهارة، ورأيته يعزف على العود فتعلق قلبي بتلك الآلة، ولمحته يدندن على الكمنجة فأحببت صوتها، وعلمني العزف على الطبلة الكبيرة وشاركت في عزف المارش العسكري الذي كان يصاحبنا خلال انصرافنا من أرض الطابور نحو فصولنا. لم يكتف الأستاذ ماهر بذلك، بل بث فينا حماسًا لم نعرفه من قبل حين أسس فريقًا للتمثيل وألقاء الأناشيد الوطنية. اختفى الأستاذ ماهر سريعًا من مدرستنا، ولكنه ظل استاذً ترك علامته في الروح.

أساتذتي كثر، وهي فرصة لتقديم الشكر لكل من علمني بمحبة ورضا، ورحم الله من رحل منهم وبارك في عمر من ظل على قيد الحياة.

حديث الكاتب والناشر كريم الشاذلي على هامش حفل توقيع كتاب “الملك والكتابة” للكاتب محمد توفيق