طاهر عبد الرحمن يكتب: من "الثالثة" إلى "الثامنة"!

لم يصدقني أبي عندما أخبرته أن تليفزيوننا الصغير -ماركة شارب، 12 بوصة، أبيض وأسود- قد التقط شارة القناة السادسة عبر جهاز UHF، والتي كانت قد انطلقت في عصر ذلك اليوم من أيام عام 1994. قبل ذلك اليوم كانت هناك قناتين -الرابعة والخامسة- قد سبق إطلاقهما قبل سنوات، ولكن لم نكن نسمع عنهما شيئا، وكنا نعيش مع الثلاث القنوات الأصلية للتلفزيون المصرى -بالإضافة إلى الراديو- باستمتاع شديد، حتى جاء اليوم الذي أصبحنا نشاهد فيه ثمان قنوات دفعة واحدة.
في الواقع لم أكن أحب من تلك القنوات سوى قناتين، القناة الرابعة لأنها كانت تعرض مسلسل “ليالي الحلمية” بأجزائه الخمسة، وكانت تلك هي أول مرة أشاهد هذه الملحمة الدرامية دون انقطاع أو فواصل زمنية متباعدة، ثم قناة الإسكندرية(الخامسة)، والتي كانت تحمل كل طبائع المدينة التي تمثلها فكانت معظم برامجها خفيفة ولطيفة وظريفة، منوعات وأغاني ومسابقات (بالإضافة طبعا لمذيعاتها السكندريات الجميلات).
 
 
في زمنه -منتصف التسعينات- كان حدث إطلاق تلك القنوات المحلية حدثا كبيرا وتطورا مهما في تاريخ الإعلام المصرى، وضمن حسنات قليلة في تاريخ صفوت الشريف “الأسود”، والفكرة هي منح كل منطقة جغرافية في مصر حق التعبير عن ذاتها وثقافتها وطبيعتها، لكن -وككل عمل أو مهمة تتولى الحكومة تنفيذها- تحولت الفكرة إلى مجرد وظيفة حكومية تهتم بالقوانين واللوائح أكثر من اهتمامها بالإبداع والتجديد في إطار القومية المصرية الجامعة.
 
 
وبالطبع فإن ذلك كان قصورا من المصدر، الذي هو مبنى ماسبيرو، فهذا المبنى قد ترهل وأصابته الشيخوخة المبكرة بسبب “حكوميته” الزائدة واعتماده -غير الصحي- على النقل والتكرار ما جعله مملا وكئيبا. ولعلي أكون واحدا من آخر جيل شهد -إلى حد ما- نقاط مضيئة وشعاع نور يبث من ذلك المبنى العتيق، قبل هجمة الفضائيات المتوحشة الشرسة التى ابتلعتنا في ثقب أسود.
وللإنصاف فإن الأمر ليس كله شر، بمعنى أن ذلك التوسع في الفضاء الإعلامي أتاح مساحات مهولة من الحرية من “فتح بطن التاريخ” ومعرفة ماحدث، إلى مناقشة الحاضر بناء على معلومات وحقائق مؤكدة، إلى استشراف المستقبل بمسؤلية ورغبة حقيقية في الوصول إليه (مع التحفظ أن الإعلام هو رسالة سياسية لها أهدافها ومخططاتها، وليس بالضرورة تكون مفيدة ومحايدة بشكل مطلق)، ولأن المسئولون في مصر هم دائما أخر من يعلم، فقد تسرب الزمن من ماسبيرو وهرب إلى مناطق أخرى، ولم ولن يدركوا أبدا أنه مهما فعلوا لن يصلوا إلى نتيجة أو حل لمشكلة ماسبيرو لأن مشكلته لم تعد فى البرامج أو طريقة نقل الخبر، أو شكل المذيعات، أو.. أو…
 
في تلك السنوات كان ما يبثه التليفزيون المصري -بقنواته الثلاث- وبعيدا عن السياسة، محتوى لائق ومتمكن وواثق من نفسه وهادئ دون صخب أو طرق على أدمغة المشاهدين، وكان متميزا بسبب تنوعه وتعدده من عمق الريف المصري ومشاكله، إلى دور الأوبرا والسيمفونيات العالمية.
 
و لم نكن -نحن أطفال تلك الفترة- نعي ونستوعب كل ما نشاهده ولكن كنا بالتأكيد نحتفظ برؤوسنا في مكانها، ولم يصيبنا دوار “السماوات المفتوحة” والأفق الفضائي المتشعب والمتشابك كما أصاب الأجيال اللاحقة، ولعل ذلك يؤكد أنه قد آن الأوان كي يتم تحويل ذلك المبنى على كورنيش النيل إلى متحف.