محمد الدسوقي رشدي يكتب : إبراهيم عيسى قاضي قضاة الصحافة المصرية 

صعبة هى الكتابة عن واحد من نخبتها ، وقاسية هى السطور حينما تسعى إليها وأنت تعلم أن مصبها الأخير مائدة قاضى قضاتها، وتلك هى المشكلة صياغة كلمات عن صائغ الكلمات الأول.

أفكر الأن هل سيغضب؟، هل سيقول أن محمد فشل فى تقديم فكرته؟، هل سيقارن بين أسلوب الماضى وأسلوب الحاضر، هل سيخبرنى بفرحة أن تطورا ما قد أصاب قلمى، أم سيكتم فى قلبه حسرة عن تلميذه الذى خاب وخابت كلماته..

الدرس الأول، لا تكتب عن أستاذك، ولا تكتب له ، إلا اذا كنت من هواة الإختبارات والإمتحانات، وإن كان أستاذك مثل أستاذى فمن الأفضل ألا تكتب أبدا له، فلا شئ يرضى ابراهيم عيسى سوى الكمال، الفكرة الحلوة والصياغة الأحلى والتنفيذ الجيد.

كنت صغيرا ، أصغر من أن يرانى أحدا بعدسة صحفية تلسكوبية، شاب تعرف قدمه شوارع الصحافة للمرة الأولى فى حياته، لم يحددوا موعد حفل تخرجى بعد، ولكن إبراهيم عيسى فعل، فتح الباب كما عادته أمام طفل صغير بمقاييس هذا الزمن، كان يسرق بعض من ساعات الأسبوع ليحبس نفسه مع أعداد جريدة الدستور القديمة فى دار الكتب، ليحلم بأن تعود ويعود معها الأستاذ لصناعة الصحف مجددا، فإذا به يجد نفسه وجها لوجه أمام الدستور وإبراهيم عيسى شخصيا.

طلب الفكرة فخلقتها، طلب التنفيذ فاجتهدت، جاء وقت القراءة فأخذت منه شهادة الإعتماد ومعها قرار لا يتخذه إلا إبراهيم عيسي، وألقى بالقنبلة فى وجهى ورحل : يامحمد أنت سكرتير تحرير الدستور، لم تسقط بعد أوراق نتيجة الحائط لتعلن تجاوز عمرى الواحد والعشرون عاما، ولكن شجاعة ابراهيم عيسى وبابه المفتوح فعلوا كل شئ، مثلما حدث مع غيرى من مواهب صغيرة أخذ الزمن دورته ليجعلهم جميعا نجوما فى ساحات الإعلام المرئى والمكتوب وفوق رأسهم شهادة تخرج من مدرسة ابراهيم عيسى.

يقول الأستاذ أن حظه قليل فى تلاميذه، بعضهم اختلف معه بقسوة، وبعضهم هاجمه وكثير منهم ارتدى ثوب النكران، و أمام المولى عز وجل أشهد بأن رحابة صدر الأستاذ بكل خلاف كانت نموذجا للكرم الصحفى والإنسانى، لم يغلق بابه حتى بعد مرور السنوات أمام من طلب العودة، ولم يشكو يوما من ناكر جميل، ولم يتحدث بسوء عن واحد من تلامذته حتى وإن أساء التلميذ.
كنا صغارا وكان يرسم لنا المسارات دون قهر أو سيطرة، يومض كشافه ويشير لنا نحو عالم يشكلنا بكتبه وموسيقاه وتاريخه وأفلامه وملاعبه، كان يخبرنا أن الصحفى الجيد من يقرأ فى كل شئ، ويفتح أذنه لكل أنواع الموسيقى، ويفتح روحه للجميع، ويقدر السينما حق قدرها، ومن فوق كل ذلك كان يغرس فى نفوسنا عقيدة تقول بأن الإختلاف واجب محبب، وعراك وجهات النظر المختلفة فوق صفحات الجريدة سنة حسنة لا تفقدوها.

ظهر كثيرون واختفوا، خاضوا تجارب واندثروا مع تجاربهم، إلا ابراهيم عيسى كلما ظن البعض أنه اختفى بتجربته ظهر لهم من حيث لا يحتسبوا، هو الصنايعى الأول لتلك المهنة، أسس لمدرسة وأصبح له تلاميذ على عكس كبار رحلوا دون أن يخلفهم أحد ودون أن يبقى فى أرض الصحافة أثرا لهم ، اللهم إلا اذا كان أثرا شخصيا، لذا يبقى ابراهيم عيسى هو كبير السحرة، كبيرنا الذى علمنا سحر الصحافة الممتعة، المشتبكة دون فجاجة، الناقدة دون فساد، الشرسة دون ذبح، المبتكرة دون ابتذال، الرشيقة دون عمليات تجميل، المسلية دون سذاجة، المتنوعة دون عبث.

غضبه كان بطيئا ولكنه قاسيا ومحرجا لأنه فى عمق الصحافة، يغضب من عنوان سئ ويأتى بأفضل منه فترغب بأن تفتح الأرض بطنها وتبتلعك من الخجل، يغضب من شكل غير جيد للصفحة وعبث ترتيب موضوعاتها، فيأتى بحل يقلب كيانها ويقلب علينا مواجع أن المشوار قدامنا لسه طويل، نعجز عن خلق الفكرة فيخبرنا بعشرة ، نحزن بسبب ما نتعرض له من مضايقات واتهامات، فيغسل الهموم على المقهى بحكاوى لا تتوقف.

أنا احب الصحافة ، ومن أحب الصحافة حقا أحب ابراهيم عيسى، تلك هى المسألة ببساطة.. ببساطة شديدة .

كل سنة وحضرتك طيب يا أستاذى، كل سنة وحضرتك طيب يا أبو يحيى ياجميل.

46436