يسري فودة: تسريحة شَعره التي أفسدتها طائرة حربية

دويتشه-فيله-المحتوي

بعد استطلاع للرأي على فيسبوك، يسري فودة يشرح في هذا المقال  لماذا انتشرت صورة الطفل السوري، عمران دقنيش، رغم المحاذير التحريرية.

0,,19488996_303,00
(صورة عمران على مقعد سوريا في جامعة الدول العربية)

حتى كتابة هذا المقال كان أكثر من 4200 من مستخدمي فيسبوك قد تفاعلوا بشكل مباشر مع استطلاع صحفي سريع على صفحتي، بينما أجاب أكثر من 260 في تعليقاتهم على هذا السؤال: من فضلك، قل “نعم” أو “لا” لهذه الصورة، و لماذا.

و رغم أن هذا ليس استطلاعًا علميًّا، فإن حجم المشاركة يمنحنا فرصة لتكوين بعض الانطباعات حول موضوع يختلط به المهني بالإنساني بالسياسي بالأيديولوجي. هذا بينما تمنحنا الأرقام فرصة للوقوف أمام خمسة مواقف.

الموقف الأول هو موقف من قالوا “نعم” بلا تحفظ، و قد اقتربت نسبتهم من 50% من مجمل الأصوات. من أبرز الآراء التي تمثل هذا الموقف ما كتبته تسنيم الخطيب: “نعم .. هذه الصورة يمكن أن ترى فيها السوريين جميعًا”، و ما كتبه عبدالوهاب علي مليطان: “نعم لعلها توقظ ما تبقى من ضمائرهم”، و ما كتبته إيمان النقراشي: “نعم فهي ملخص لما يدور من 5 سنوات في سوريا”.

الموقف الثاني هو موقف من قالوا “لا” بلا تحفظ، و قد اقتربت نسبتهم من 23% من مجمل الأصوات. من أبرز الآراء التي تمثل هذا الموقف ما كتبه شريف عبدالودود: “لا، حق الطفل في خصوصيته يعلو فوق هدف النشر”، و ما كتبه رائد زينو: “لا لاستغلال الأطفال”، و ما كتبه أحمد البنداري: “لا، هذه الصورة تروج لها وسائل إعلام عالمية متآمرة على العرب”.

الموقف الثالث هو موقف من قالوا “نعم” بتحفظ، و قد شكلوا نحو 5% من مجمل الأصوات. من أبرز الآراء التي تمثل هذا الموقف ما كتبه بشر إمام: “من الناحية التعبيرية نعم و ألف نعم و لكن يحبذ لو كانت رسمًا لا صورة”، و ما كتبته نهى حجاج: “نعم و قلبي موجوع”، و ما كتبه أحمد نورالدين: “نعم إذا تغير العلَم”.

الموقف الرابع هو موقف من قالوا “لا” بتحفظ، و قد شكلوا نحو 2.5% من مجمل الآصوات. من أبرز الآراء التي تمثل هذا الموقف ما كتبته حنان خشبة: “هذه الصور لم تعد تحرك مشاعر أحد من كثرتها .. لابد من آلية أخرى”، و ما كتبه محمد صلاح الدين: “الغربي سيندهش و العربي لن يبالي و جميع الأيدي لن تحرك ساكنًا”، و ما كتبه وائل محيي: “لا، مع أن الواقع نعم”.

الموقف الخامس هو موقف غير واضح في ما يخص سؤال الاستطلاع، و إن كان بعضه واضحًا في ما يخص التوجه العام، و قد شكل هذا الموقف نحو 20% من مجمل الأصوات. من أبرز الآراء التي تمثل هذا الموقف ما كتبه أحمد سليم: “هذا الطفل أشرف ممن جلسوا على هذا المقعد و أمثالهم”، و ما كتبته هدى حسن: “سوريا وصمة عار على جبين كل عربي و كل إنسان”، و ما كتبه بهاء مجدي: “ملعون أبو كراسيهم اللي بتعمل كده في البني آدمين”.

أما و الأمر كذلك، فإنه لا بد قبل المناقشة من تثبيت بعض الحقائق و الإشارة إلى بعض النقاط:

أولًا: هذه صورة مركّبة (فوتوشوب)، من الواضح أن من ركّبها لم يكن يقصد تزييفًا؛ فلقد سبقها انتشار واسع النطاق لفيديو الطفل عمران، و هو أعمق أثرًا. هي في الواقع أقرب إلى صرخة تلقي بمأساة سوريا إلى مقاعد العرب الوثيرة في القاعات الفخمة المكيفة، و إن كانت صرخة يلوّنها رفض الواقع الرسمي عن طريق تغيير العلم السوري الذي لا تزال جامعة الدول العربية تعترف به. هنا يبدأ اختلاط السياسي بالإنساني في أذهان كثيرين، و هنا نلحظ هجومًا شديدًا من أحد الأطراف في ما يخص علَم الثورة السورية، بعضه عن موقف سياسي واضح، و بعضه الآخر نتيجة جهل بالتاريخ. بغض النظر عن الواقع الراهن و بغض النظر عن موقفك السياسي، هذا العلّم في الواقع هو علم الاستقلال عن المحتل الفرنسي.

ثانيًا: الفيديو الذي اقتُطعت منه صورة الطفل عمران نشره مركز حلب الإعلامي، و جاء في سياق قيام أصحاب الخوذات البيضاء – و هم متطوعون يخوضون حرب إغاثة لم تتحملها أعتى منظمات الإغاثة الدولية – بإنقاذ من استطاعوا أن ينقذوهم من تحت الأنقاض بعد قصف جوي قتل ستة مدنيين و أصاب اثني عشر في حي القاطرجي في حلب. و لأن قوى المعارضة – مدنية أو إسلامية – لا تملك طيرانًا حربيًّا فإن الفاعل ينحصر بين سلاح الجو السوري و سلاح الجو الروسي الذي استقدمته دمشق. حجة النظام السوري أنه يستهدف الإرهابيين، و منطق الرئيس السوري – الذي عبر عنه في مقابلة حديثة مع قناة “إن بي سي” الأمريكية – أنه لابد في الحرب من وقوع ضحايا أبرياء.

ثالثًا: زاغ البصر، كما يمكن أن نستنتج من التعليقات، بين ثلاثة أمور لكل منها دوافع مختلفة. (أ) مشكلة العلَم التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة. (ب) إجلاس طفل – أو أي أحد آخر بهذا المعنى – في مقعد الرئيس السوري. (ج) الطفل في حد ذاته. و إذا كان هناك تداخل بين (أ) و (ب) من حيث الرمز، فإن (ج) معضلة كبرى لا تزال تثير جدلًا واسع النطاق في غرف الأخبار و في معاهد التدريب الإعلامي و بين الباحثين و المهتمين. ثمة قواعد عامة لكنّ الشيطان يكمن في التفاصيل بافتراض حسن النية.

الأصل في الإعلام هو “الإعلام” بالمعنى القاموسي للكلمة، فإذا تعذّر “الإعلام” إلا عن طريق “جرح” مشاعر البعض فلابد من الانتصار للأصل. و هناك في هذا الشأن بعض الوسائل لتخفيف هذا “الجرح” دون التضحية بالحقيقة. السؤال هنا: هل كان يمكن “إعلام” الناس بما حدث في حلب دون هذه اللقطات لطفل جريح تدمى القلوب لمنظره؟ و هل كان يمكن تخفيف “جرح” المشاعر؟

من الناحية الفنية، نعم، كان يمكن إخفاء معالم الوجه، لكني أشك كثيرًا في أن “كم” الدم على وجه الطفل هو الذي أدمى القلوب بقدر ما أدمتها لحظة إنسانية من طراز نادر. عيناه الزائغتان المدفونتان في أثر الركام. إحساسه المكتمل بالنقصان و المقتدر بالعجز. طفولته المغدورة و هو يختلس النظر قبل أن يمسح دمه في المقعد. انذهاله غير المعهود إلى حد انتفاء البكاء و الألم. تسريحة شعره التي أفسدتها طائرة حربية. هذه توليفة من “المعلومات” الرمزية الخلابة التي يصعب مقاومتها في أي غرفة أخبار. هي في حد ذاتها “خبر”، و الصورة كلها “موجز أنباء” سوريا للسنوات الخمس الماضية.

و من ثم لم يكن مستغربًا أن تحتل صورة عمران صدر صحف العالم كلها تقريبًا، بما فيها صحف كثيرة مشهود لها باتباع قواعد المهنة و أخلاقياتها. و لم يكن مستغربًا أن تتهدج أصوات المذيعين و المذيعات و هم يقدمون اللقطات. هذه صورة تقفز مباشرة إلى مصاف تلك الصور التي تُدرّس في تاريخ الصحافة، مثلها مثل صورة طفلة فييتنام التي لولاها لما انقلب الرأي العام على الإدارة الأمريكية، و مثلها مثل صورة الجندي العراقي المتفحم داخل دبابته التي لولاها لما التفت العالم إلى أثر استخدام اليورانيوم المنضّب في حرب الخليج، و مثلها مثل صورة الطفل الفلسطيني محمد الدرة التي لخّصت الانتفاضة.

يبقى إذًا السؤال: أوَليس في هذا استغلال سياسي؟ و بما أن أحدًا لم يستشره، و لا هو أصلًا قادر على الإدراك، ألا يمكن أن يؤثر هذا فيه ذهنيًّا و نفسيًّا؟ إجابتي على هذا السؤال الأسبوع القادم.