محمد الباز يكتب: السيسى والصحافة... من يخطط لقطع يد الرئيس؟

” الصحافة ليست جريمة”… هذه بديهية لا تحتاج الى بذل مزيد من الجهد لتأكيدها، لكن يبدو أننا فى زمن الفتنة الذى نعيشه الآن نجد أنفسنا فى حاجة ملحة لتأكيد المؤكد، ونفى المنفى، وهى حالة لا نتيجة لها الا استنزافنا، وجعلنا فى مواجهة بعضنا البعض، رغم أننا فى أمس الحاجة لنقف صفا واحدا، فى مواجهة من يريدون لهذا الوطن خرابا… لا تشغلهم الا أنفسهم ومصالحهم… وليذهب الجميع بعدهم الى الجحيم.

هذا هو الحال، ليس فى حاجة الى تفصيل أو إيضاح، ما يحتاج منا لبعض الجهد هو البحث عمن يقف وراء هذا الوضع الملتبس؟ من ينفخ فى النار بهده الطريقة التى تلهب ظهورنا ولا تمنحنا فرصة لالتقاط الأنفاس؟ من يدفع بينا لنكون فى مواجهة ما لها أن تكون؟ من يشعل النار دافعا أبناء المهنة التى لابد أن تقف فى خندق واحد مع النظام فى حربه ضد الإرهاب الأسود، الى أن ينزلوا بغضبهم إلى الشارع، بدلا من أن يمارسوا عملهم بالنقد والتصويب والتقويم عبر الورق وشاشات صحفهم الاليكترونية؟

لن ألقى بحجر النار على ثوب النظام وحده، ولن أتركها تحرق ثوب الصحفيين وحدهم، فكلنا مدانون، نحمل من الوزر نصيبا، فكل طرف يتمسك بما يعتقد أنه الصواب المطلق، لا يقبل فيه نقاشا ولا له نقدا، كل طرف يريد أن يخضع الآخر لرغبته ومشيئته التى يعتبرها مشيئة عليا لا تمس، كلنا ندعى وصلا بهذا الوطن، رغم أننا لا نكف عن تمزيقه وقطع أوصاله، وتحويله إلى جثة نرقص على أطلالها، ونحن فرحين لاعتقادنا أننا نعمل على تحريره وجعله أجمل وأرق وأرقى وأعظم وأكبر، والواقع أننا نعمل جاهدين على تقزيمه وتشتيته وتفتيته.

لو سألتم ما الذى يريده خصومنا؟

ستكون الإجابة الواضحة القاطعة الحاسمة هى: نريدكم كما أنتم تماما، فرقا شتى، متنازعين ومتحاربين ومتخاصمين، لا اتفاق على كلمة واحدة، ولا عمل من أجل تحقيق هدف واحد، لقد فشلنا فى هزيمتكم بالسلاح والإرهاب والتخويف والحصار والتجويع وقطع سبل الرزق عليكم، فلا أقل من أن نجعلكم ترفعون سلاح الكراهية فى وجه بعضكم البعض، وهو ما يحدث الآن وبكفاءة عالية، نحن نكره بعضنا البعض، وحكمة الحياة تقول إنه لا عيش مع كراهية، ولا تقدم مع تخوين، ولا وطن مع أبناء كل منهم يريد أن يزيل الآخر ويقضى عليه.

٠٠٠٠٠

فى أول لقاء له مع الصحفيين بعد أن أصبح رئيساً، قال السيسي لهم إنه يعرف مشاكل مصر داخليا وخارجيا كما يعرف كف يده، أراد بأريحية شديدة أن يوزع الأدوار والمهام، من البداية وهو يريد ألا يحكم وحده، كلف نفسه بالتصدى للمشاكل والأزمات الخارجية، وطلب من الصحفيين أن يهتموا بالجبهة الداخلية، لم يطلب منهم أن يقوموا على حل مشكلات الداخل، كان يريدهم أن يقوموا بدورهم، أن يطلعوا الناس على حقيقة ما يحدث، يحاربوا معه سيل الشائعات التى يتعرض لها النظام بغرض تفكيكه، تمهيدا لتفكيك الدولة كلها.

لم تكن مهمة الصحفيين التى كلفهم بها السيسي صعبة، لكن يبدو أن هناك من لم يستوعب هذا الدور ولا أبعاده، فلعب كل منهم طبقا لقناعته هو، ونزولا على مصالحه هو، وعندما بدأ الجميع فى التفاعل والتعاطي مع مجريات الأمور، بدأت الهوة تزداد بين ما أراده السيسى وما يقوم به الاعلام على الأرض.

هل كان الصحفيون وحدهم هم السبب فى ذلك؟

سيكون من الظلم أن نحملهم المسئولية كاملة، فالنظام أيضاً له من الأزمة نصيبه الذى لا يعترف به ولا يقر، لقد أرسل السيسي إشارة للصحفيين عندما قال أنه يحسد عبد الناصر على إعلامه، وهى إشارة كانت مزعجة، ليس لأن السيسى هو عبد الناصر، ولكن لأن الزمن تغير، وآليات الاعلام تغيرت، فاعلام التعبئة والحشد والتهليل لكل ما يصدر عن الحاكم أيا كان شأنه انتهى زمنه وولى.

ففى ظل حالة التدفق الهائلة من المعلومات التى تحاصرنا طوال اليوم، لا يمكن أن نعتقد أننا مصدر المعلومات الوحيد، أو أن ما نقوله سوف يسمع له الناس ويخضعون، انهم يتعرضون لمعلومات أخرى، تعترض طريقهم وجوه أخرى للحقيقة، فلن يتأثروا بما نقوله، ولن تكون لنا اليد العليا عليهم، إلا لم تكن لدينا المعلومات الكاملة وفى الوقت المناسب، وهى مهمة النظام، فالإعلام لا ينطق عن الهوى، ليس ما نقوله وحيا من السماء يأتينا عبر الخاطر، ولكن ما نقوله معلومات، يملكها النظام ويتحكم فيها، وعندما يحجبها، أو يمرر منها ما يشاء، أو يعلنها فى الوقت الذى يناسبه، فهو بذلك يشل حركة إعلامه، ويجعله كسيحا فى مواجهة خصوم ليسوا شرفاء بالمرة.

أراد السيسي من الاعلام أن يكون يده، لكن التجربة التى نعاصرها وتعتصرنا، أثبتت أن هناك من يريد أن يقطع يد الرئيس، يجعله يحارب وهو يفتقد السلاح الأقوى الآن فى المعارك، فالمعلومات هى الذخيرة الحية التى يستطيع أى نظام أن يحسم معركته بها دون أن يتحرك من مكانه.

…..

لن أحلق بكم فى أفكار وتنظيرات قد لا تتفاعلون معها أو تنفعلون بها، سأنزل بكم على أرض الأزمة التى يستعين بها البعض، رغم أنها يمكن أن تكون بداية لجحيم لا قبل لنا به، فلا أحد منا يطيق أن نعود الى سيرتنا الأولى من الاضطراب والتفكك والخوف والفوضى… ولا أحد منا يرغب فى استحضار هذه الحالة من جديد، لكن ما يحدث يحدثنى أننا ماضون اليها لا محالة، دون أن يكون من بيننا عاقل ينصحوا بأن نتوقف لنتأمل ما يجرى من حولنا.

سأكون صريحا معكم بأكثر مما ينبغى، نحن الآن فى مصر لا يحكمنا العقل، ولا نسير بمنطق، بل يتحكم فينا ويصغينا الكيد السياسى.

هل تريدون توضيحا لهذا؟

سأخبر كم بما جرى.

فى الجمعة التى أطلق عليها المتظاهرون ” الأرض هى العرض” ( ١٥ ابريل ٢٠١٦) لعب الصحفيون دورا كبيرا فى تجميع المتظاهرين، وفتحت لهم نقابة الصحفيين أبوابها، بقناعة تامة أن من حق من يعترض أن يتظاهر، نقابة الرأى ترى أن البديل للتظاهر والإعلان عن الغضب هو اللجوء الى العمل السرى الذى يترجم الى أعمال إرهابية.

لم يعجب هذا التصرف بعض القائمين على أجهزة الأمن، فكان القرار أن يردوا الضربة للصحفيين فى يوم التظاهر التالى ( ٢٥ ابريل ٢٠١٦)، كانت الرسالة الواضحة هى أنكم انتصرتم فى حماية مظاهرات ١٥ ابريل، فلن نسمح لكم أن تتظاهروا من الأساس فى ٢٥ ابريل، وهو ما جرى.

الكيد السياسى الذى حرك أجهزة الأمن لمواجهة مظاهرات ٢٥ ابريل، تحول الى حالة عاتية من الكراهية لكل ما يمس الصحافة بصلة، فى هذا اليوم تحولت الصحافة الى لعنة، كل من يحملها مستباح، ومعرض للإهانة والقبض عليه، وسبه وشتمه ولعنه، للدرجة التى تشعر معها أن أجهزة الأمن تتمنى أن تستيقظ من نومها لتجد أن مصر أصبحت خالية من الصحفيين جميعا.

كانت المواجهة قاسية، لم يتم القبض على الصحفيين فقط، ولكن تم إهانة النقابة والسخرية من سلمها الذى كان فى سنوات ماضية رمزا للنضال والمواجهة، وكأن هناك من أراد أن يقول للصحفيين أن السلم الذى تعتزون به، يمكن أن نحوله فى لحظة الى حلبة رقص وتأييد وتهليل لما و لمن نريد، لن نمكنكم من الوقوف عليه، بل سنجعله ساحة مستباحة لمن نشاء.

لم يخضع الصحفيون قبل ذلك، حتى يخضعوا الآن.

النظام يواجه جيلا من الصحفيين يتعجل موته، ولذلك المواجهات أصبحت لديه دينا ومعتقدا، لا يخاف ولا يخشى، قادر على هزيمة خصومه بالصمود والسخرية، فلماذا تحول الأجهزة نفسها الى خصوم لجيل لا يرحم؟

نتيجة المواجهة القاسية فى ٢٥ ابريل كانت مخزية، تجمع الصحفيون من جديد، خرجوا من نقابتهم وهم يحملون أقلامهم وكاميراتهم، وساروا أغلب الوقت صامتين، الهتافات كانت قليلة، لأن الصمت فى هذه الأوقات أبلغ تعبيرا من كل الكلام، أصبحنا أمام مواجهة جديدة، صحفيون يرفضون الإهانة، يتقدمون ببلاغ ضد وزير الداخلية بصفته، يرغبون فى سؤاله ومساءلته عن الإهانات التى لحقت بهم، عن زملاءهم الذين تم القبض عليهم وهم يسيرون فى الشوارع، وأعتقد أن صورة الصحفيين وهم يرفعون أقلامهم وكاميراتهم أسوء صورة لنظام، نصدقه أنه يريد أن يبنى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، لكن من قال أن الدول تبنى بالكلام أو النوايا الحسنة والأمنيات الطيبة.

رسالة الصحفيين من المفروض أن تكون وصلت ليس الى الأجهزة الأمنية فقط، ولكن الى رأس الدولة، لكن ما أعتقده أن الصورة التى لم تخطئها عين وصلت، لكن الرسالة نفسها لم تصل، هناك من يتعالى على ما يحدث، يحلو لهم أن يتعاملوا مع الصحفيين على أنهم مجموعة من المجرمين المنحرفين الذين يعملون لهدم الوطن، وهى نظرة فاشية مستبدة طاغية غاشمة، لن تضر الصحفيين فى شئ، لكنها ستضر النظام أبلغ الضرر.

كان يمكن للجميع أن يتفادوا هذه الصورة تماما، بقليل من الاحترافية كان يمكن استيعاب الموقف.

لا أتحدث عن رجال الأمن فقط، ولكنى أتحدث عن الصحفيين أيضاً، فالصحفيون الذين نزلوا لتغطية المظاهرات كان يجب أن تحصنهم النقابة ومؤسساتهم الصحفية، بأن تكون هناك شارات واضحة تقول أنهم صحفيين، وفى هذه الحالة ليس من حق رجل الأمن أن يستوقفهم أو يهينهم أو يقبض عليهم، لأنهم فى هذه الحالة يؤدون عملهم المكلفين به، والذى يحميه القانون والدستور.

لا أنكر أن هناك صحفيين نزلوا فى ٢٥ ابريل كمتظاهرين، فهم فى النهاية مواطنون، ولا يمكن أن يصادر منهم أحد حق الغضب والاختلاف فى الرأى الذى لا أرى فيه جريمة على الإطلاق، وحتى هؤلاء لا يجب أن يستباحوا، فطالما أنهم ملتزمون وبعيدون عن أى عمل تخريبى، فليس من حق أحد أن يستوقفهم، أو يتعامل معهم بعنف.

لست فى حاجة الى التأكيد على أننا نقف مع نظام عبد الفتاح السيسى فى خندق واحد، ندافع وندفع عنه البلاء، لأننا نعرف أن من يريدون به شرا، يفعلون ذلك لأنهم يريدون بالوطن كله الهلاك، لكن ليس معنى هذا أن نصمت، عندما نرى أن هذا النظام يضر نفسه، ويتحرك بخطوات متسارعة لقطع يده التى هى أداته فى الدفاع عنه وتفكيك كل المخططات التى تعمل على تفكيكه هو.

لا تجعلوا من الصحفيين خصوما، لا تضعوهم فى خانة الأعداء، لأنهم فعليا ليسوا كذلك.