جابر العثرات يكتب: مُرورَ الكرام (٦) – اللفظُ كاشف

إن اللفظَ كاشفٌ. فشعار مثل #JeSuisCharlie «أنا تشارلى» الذى أُطلق بعد الهجمة الإرهابية على مقر جريدة فرنسية اسمها “تشارلى” محمّلاً بمشاعر التوحد مع الضحية والتماهى بينه وبين صاحب الشعار؛ فى المقابل منه نجد الآن شعارات أخرى مثل: “ليس باسمى” #NotInMyName أو #أنت_لست_مسلما_يا_أخى #YouAreAMuslimBruv تأتى نازعةً إلى الفردية، وغير معنيّة بالضحية ولا بالإرهاب فى حد ذاته، وإنما بإخلاء الذمة من الدم والتبرؤ من فاعله وبرفض التصنيف معه. هذا الانتخاب للفظ والصوغ للعبارة لا بد أن يوحى لنا بأشياء. واختيارها دوناً عن صياغات أخرى محتملة هو صياغةٌ يتحتم أن يكون لها مغزىً ما فى حد ذاتها. وهذا ليس فقط على مستوى اللغة، فالصورة المنقولة أيضاً من حشد ذائب متجانس لا يملك إلا أن يمتد خارج إطار الكادر فى مسيرة إلى أنحاء المدينة، تتباين بالتأكيد مع صورة الفرد المتصدر لها، يتبادل هو وآخرون التقاط الصور لأنفسهم وكل منهم يحمل لافتته الخاصة، واقفين فى فراغهم الحميم المغلق على ذواتهم؛ لتُنشر بعد ذلك بشكل متفرق وشخصى تحت هذا الهشتاج أو ذاك على حساب أو صفحة، وذلك على سبيل المشاركة أو إعلان الموقف أو حتى جزءاً من حملة منظمة.

فبين هذه اللغة والصور سمات مشتركة ذات دلالة. وكما تحدثت فى التدوينة السابقة عن ظهور خطاب للتبرؤ –وأعنى به العبارات التى تسُوقها المؤسسات والأفراد المنتمين للإسلام إعلاناً منهم بتبرؤهم من الإرهاب– فإن كلاً من هذه الصور والتدوينات الشخصية عبارة أيضاً عن ممارسات خطابية تندرج تحت هذا الخطاب Discourse: خطاب التبرؤ. وإذا كنتُ فى التدوينة السابقة قد صنّفت الخطابات وأوضحت تناقضاتها، فدعونى أحاول فى هذه التدوينة محاولة فكّ التناقض.

من يخاطب من؟

من المعنىّ بالخطابات المختلفة؟ فلكل خطاب شخص أو جمهور يستهدفه. وإذا عدنا إلى التدوينة السابقة ستجدنى قد عدّدت خطابات كثيرة، أربع أو خمس أنواع من الخطاب، فهل تخاطب جميع هذه الخطابات نفس المتلقى؟ هل يمكن أن يكون تفسير التناقض المزعوم كامناً فى التمييز بين هذه الخطابات من حيث مَن المقصود بها؟ يمكن مبدئياً التسليم بأن هناك توجهين رئيسيين للخطابات: خارجىّ وداخلىّ. وعليه يمكن لنا أن نصنّف خطابات اللا تكفير (والتكفير ضمنياً) ومعهم خطاب تبرير التكفير على أنها خطابات داخلية، تخاطب فيها المؤسسة أو التنظيم الدينى المسلمين بلغة دينية واضحة خاصة بالإسلام لا يفهم تعبيراتها إلا المسلمون. أما خطاب التبرئة للإسلام، والذى غالباً ما يحوى الجملة الإكليشيهية إياها: الإسلام برىء، فنلاحظ أن الجهات المصدرة له ليست قاصرة على المسلمين أو المؤسسات الإسلامية. فبالإضافة إلى هؤلاء، هناك حكومات وشخصيات ووسائل غربية تتبنى هذا الخطاب:

– هيلارى كلينتون: الإسلام برىء من الإرهاب
– أوباما : داعش لا يمثل الإسلام
– “كوميك” بصحيفة بريطانية: الإسلام برىء من ’حمار‘ يقتل باسم الدين

لهذا قد يبدو لنا هذا الخطاب ملتبساً حيث يشترك فى إنتاجه صحف وقنوات غربية أيضاً؛ لأنه إذا كان طرفا المواجهة –المصدّرة لنا على أنها بين الإسلام والغرب– يتفقان على أن الإسلام برىء، فمن المعنىُّ بهذا الخطاب إذن؟ والحال أن خطاب التبرئة خطاب ’خارجى-داخلى‘ معاً؛ فهو خطاب يستهدف أولئك الشباب والفتيات الذين يغرر بهم داعش بخطابه الدينى المغشوش طمعاً فى الجنة كى لا يقع المزيد منهم فى إغوائه، وهو فى ذات الوقت خطاب يهدف أيضاً إلى دفع التهمة أمام المجتمعات الغربية عن المسلمين المتواجدين فيها والمهدَّدين بأن تطالهم أعمال انتقامية رداً على تلك العمليات الإرهابية. هذه الثنائية فى التوجه هى فارق أساسى بين خطابى التبرئة والتبرؤ. فخطاب التبرؤ هو خطاب خارجى صرف. وهو الخطاب الوحيد، بين تلك الخطابات، الذى يُوجَّه بكامله للخارج، أو بالأحرى: للآخر. وهذا، إذا فكرنا فيه، أمر منطقى. فالتبرؤ يكون دائماً مشهداً يُخرج للآخرين.

إذن فهناك خطابات داخلية التوجه (وهى خطابات التكفير، واللا تكفير وتبريراته) وخطابات خارجية التوجه (وهى خطابات التبرؤ) وخطابات مزدوجة التوجه (وهى خطابات التبرئة) وعليه، يمكن تفسير التناقض بين خطابات اللا تكفير الداخلية وخطابات التبرؤ الخارجية بأن كلاً منهما موجّهٌ لجمهور مختلف، وأن التناقض ينشأ فقط عند محاولة أن نجمعهما قسراً –على عكس قصد مُصدر هذه الخطابات– فى سياق واحد معاً، وكأن نفس الجمهور هنا هو نفسه هناك. فالتناقض هنا هو مجرد عدم فهم منّا لظاهرة ازدواجية الخطاب عند منتِجه، بحيث يُنتج خطاباتٍ مختلفةً يستهدف كلٌّ منها جمهوراً غير جمهور الخطاب الآخر. وهو تناقض ليس فقط مع نفسها، أى نفس الخطابات التى تنتجها مؤسسة واحدة، ولتكن الأزهر مثلاً، بل أيضاً عندما نقارن بين هذه الخطابات وبين خطاب من مصدر آخر، لم يقع صاحبه فى خندق الاتهام والدفاع، ولم يجد نفسه مضطراً لإنتاج طقمين من الخطابات فى سياق واحد. مثالاً على ذلك هذان التصريحان؛ الأول من بيان الأزهر الذى يبرر عدم تكفيره لداعش، والآخر لبابا الڤاتيكان:

«ما يقومون [داعش] به من أفعال ليس من الإسلام فى شىء، بل ما يقومون به [هو] أفعال غير المسلمين، ولا [يستتبع] ذلك بالتأكيد أن يكونوا كفاراً.» بيان الأزهر

«استخدام اسم الرب لتبرير هجمات يُعتبَر كفراً.» بابا الڤاتيكان

وهكذا، فى عبارة واحدة مباشرة موجزة، قدّم البابا اسم الرب ولم يركز على مُسمّى لدين ووصم المبدأ أو الفعل بالكفر، فى مفردات تختفى كلها من الخطاب الإسلامى، إن لم يكن يقدم النموذج النقيض لها!

لكن الأمر الذى يظل غير محلول هو أن كل خطاب من هذه الخطابات يبدو مبرَّراً، بمعنى أننا قد نرى داعياً لإنتاجه أو هدفاً يتوجه له، فيما عدا خطاب التبرؤ هذا؛ فنحن لا نعرف سر الحاجة إلى وجوده. فظاهرياً، قد يبدو لنا أن خطابات التبرئة واضحة كفاية لدفع التهمة عن الإسلام، ثم إنها مزدوجة التوجه تخاطب من ينتمى للدين الإسلامى ومن لا ينتمى له؛ فلماذا إذن يوجد هذا الخطاب المختص بالغرب فقط –وأعنى به خطاب التبرؤ– والذى يركز بالذات على الانتساب إلى الإسلام؟

باسم الإسلام

للإشارة إلى الكيفية التى صار بها خطاب التبرؤ يمثل ظاهرة فى حد ذاته، أُورد مثالين عن دار الإفتاء. جاء أولهما فى تصريح للمفتى على سى إن إن الأمريكية، والآخر ضمن كلمة ألقاها مستشاره ضمن إحدى فعاليات الأمم المتحدة. هذان الخطابان –وهما يندرجان بالتأكيد تحت خطابات التبرؤ، فأحدهما موجّه إلى وسيلة إعلام غربية والآخر أُلقِىَ فى محفل دولىّ– يكشفان أكثر من غيرهما عن لب الإشكالية كما أتصورها من خلال الخطابات التى عرضتها. وقد اقتطعتُ من الخطابين هذه العبارات:

نتألم كثيرًا لما يحدث من عمليات إرهابية يروح ضحيتها الكثير من الأبرياء، وتتم باسم الدين
– أطلقت دار الإفتاء المصرية مبادرة عالمية بعنوان “Not in the Neme of Muslims” طالبنا فيها بعدم تحميل المسلمين ضريبة التطرف والإرهاب
– عدم استخدام مصطلح “الدولة الإسلامية” ISIS عند الحديث عن الجماعة الإرهابية فى العراق والشام، واستبدالها بمصطلح “منشقى القاعدة فى العراق والشام” QSIS

لا أريد أن أتناول كيف أن هذه الخطابات واقعة فى غفلة تامة عن مشكلات الصياغة البادية فيها (عندما توحى بأن التألم هو لأن هجمات الإرهاب نُفذّت باسم الإسلام، وليس لأنها إرهاب فى المطلق) وعن تداعياتها اللفظية غير الملائمة بالمرة (حينما تحاول أن تستبدل “قسيس” بـ”إيزيس” فى التسمية المختصرة الإنجليزية) ما علينا من هذه الغفلان، الذى لا أراه يليق بمؤسسة بوزن دار الإفتاء المصرية، ولنركز على موضوعنا. فما أود التركيز عليه هنا هو الأهمية المطلقة التى توليها هذه الخطابات لاسم ’الإسلام‘ وما تنطوى عليه مثل تلك الأهمية المولاة للاسم..

فالظاهر هو أن المؤسسات الإسلامية تتعامل مع الإسلام بوصفه ’ماركة‘ أو اسماً تجارياً موضوع نزاع بينها وبين داعش. فالبضاعة ذاتها التى تُصنّعها منظمات مثل داعش والقاعدة لا تكون مشكلة، أو مشكلتنا نحن بالأخص، إلا عندما تحمل ’ملصق الإسلام‘ وتروّج لها باسمه خارج العوالم المغلقة للمسلمين. وداعش بالذات يفاقم اسمه من المشكلة نظراً لأن وصف ’الإسلامية‘ متضمَّن فى اسمه، وهو بهذا يمثل ’دعاية سيئة لمنتج‘ الإسلام! تُرى، لو لم تكن هذه النظرة إلى إشكالية الإرهاب الدينى هى المسيطرة على المؤسسات الإسلامية، فهل ثمة معنى آخر لأن تطلق دار الإفتاء مثل هذه الحملة ’الدعائية‘ التى تركز على الاسم بالذات؟

إن خطاب التبرؤ ليس ظاهرة جديدة، فظهوره تاريخى وقديم، ومرتبط بظهور جرائم الإرهاب باسم الدين ويخرج دائماً بمناسبتها. ولعل من أقدم السوابق لخطابات التبرؤ التعليق المأثور لحسن البنا: «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين» والذى طلع فى مناسبة حادثة إرهابية متبرئاً بذلك من الفاعلين. وهو قول، تبدو شعارات مثل «ليس باسمى» و«أنت لست مسلماً» مجرد إعادة إنتاج له. وتحت هذا الخطاب؛ خطاب التبرؤ، تندرج كل المصطلحات التى حاول سكّها كلٌّ من علم الاجتماع السياسى والإعلام، بعضها لغوى أنيق مثل ’متأسلم‘ وبعضها فجّ وسوقىّ مثل ’إسلامجى‘، ناهيك عن سلسلة الأوصاف الرنانة من: متطرف، أصولى، راديكالية دينية. أما الذى جدّ على هذا الخطاب القديم فهو ما ساعدت عليه مواقع التواصل مؤخراً من الانطلاق خارج حدود المؤسسات والشخصيات العامة والصحف؛ لنجد أن الأفراد صاروا مشاركين هم أيضاً فى عملية إنتاجه، حيث أصبح كل فرد قادراً على إنتاج خطاب التبرؤ الخاص به والمعبّر عنه هو شخصياً بمجرد نشر تدوينة على صفحته. ومثلما كان حسن البنا يتوجه ببيانه للآخر، أى غير المنتمين للتنظيم، فإن الصور الأخرى والجديدة من الخطاب كافةً، بدءاً من تصريحات المؤسسات وانتهاءً إلى تدوينات الأفراد، هى أيضاً تتوجه للآخر، وهو هنا الغربى غير المسلم (حتى لو كان المنادَى هو “أخى”، فالشعار لا يخاطب ذلك ’الأخ‘ أصلاً) ليصير بذلك هؤلاء الأفراد هم أيضاً جزء من خطاب التبرؤ. ليسوا فقط جزءاً، وإنما قوام الإنتاج واسع الانتشار للخطابات التى من هذا النوع، والذى لولا ماكينة الإنتاج المتمثلة فى المواقع الاجتماعية ما كان ليصبح ممكناً.

محاولة فكّ التناقض

فى كتابه الممتع عن “فتح أمريكا” (والذى ندين بفضل ترجمته إلى العربية للأستاذ بشير السباعى) يخبرنا تزڤيتان تودوروڤ الباحث البلغارى الفرنسى الكبير أن البادرة الأولى لكريستوفر كولمبوس للاتصال بالعالم الجديد الذى اكتشفه للتوّ تمثّلت عنده فى فعلٍ دؤوب للتسمية. فيعطينا المؤلف المثل تلو المثل عن الاهتمام غير العادى لدى كولمبوس بإطلاق أسماء ذات مغزى عنده على الظواهر الجغرافية التى يصادفها فى سِكّته. مع أن السكان الأصليين لهذا العالم كانت بالطبع لديهم مسمياتهم لعالمهم، وأن كولمبوس نفسه كان يعرف حق المعرفة أن لهذه الظواهر أسماءً بالفعل. هذه النزعة غير العادية للاهتمام بالتسميات التى نلمسها لدى كولمبوس يفسّرها تودوروڤ بأن «إطلاق الأسماء على الأشياء يساوى امتلاكها.» والحال أن دوران ردود أفعال المسلمين، مؤسسات وأفراداً، فى فلك الاسم قد حوّل الإسلام –دون وعى منهم– إلى أن يكون موضوعاً لشىء يتنازع على ملكيته الداعشيون وغير الداعشيين، وليس ديناً أو إرثاً روحياً أو مجموعة من المبادئ الإنسانية.

فالامتلاك هو الوجه الآخر لتلك النظرة إلى الإسلام باعتباره اسماً دعائياً أو علامة تجارية مسجلة، أو على أنه عائلة أو قبيلة لها اسم ونسب، أو حتى إرثاً لم يعد روحياً بل صار مصكوكاً على هيئة حقوق دنيوية للانتفاع والتصرف. وإدخال فكرة “أن الإسلام صار ’شيئاً‘ متنازعاً على ملكيته” أو “أنه ’كيان‘ يُنتسب إليه” على الخطابات، يجعلنا نرى خطاب التبرؤ لا يزيد عن كونه لافتة مثل تلك اللافتات التى تقول إنه «ليس للمحل فروعٌ أخرى» أو إعلاناً من نوعية الإعلانات مدفوعة الأجر التى تنشرها الشركات على صفحات الجرائد؛ لتنفى صلة شخص ما بها أو تنزع عنه صفة أنه مازال يمثلها، وتعلن أنها لم تعد مسئولة عما يقوم به. وخطابات اللا تكفير تكمّل هذه الصورة إذا نظرنا إليها على أنها مذكرة داخلية تمررها الإدارة بين موظفيها القلقين لتوضح لهم أن نفس ’زميلهم‘ هذا المفصول أو المستبعد، والذى يوجد كثيرون منهم متعاطفون معه أو أعضاء فى نفس النقابة معه، لن يُحرم من حقوقه ومكافآته بل وربما معاشه أيضاً. وربما تكون تداعيات هذه الصورة ممتدة لما هو أبعد، لكن المهم هو أنها تجعلنا نبدأ نرى الخطابات، بعد أن كانت متناقضة وبعضها غير مبرر، تبدو الآن متناغمة وتخدم أهدافاً كليّة. ثم إنه لا بد أن أقصى نجاح للممارسات الخطابية التى تنتهجها ’الشركة المالكة‘ هو عندما يبدأ ’الموظفون‘ –سواء بوعى منهم أو عدم وعى–فى إعادة إنتاج نفس خطاباتها تلك فيما بينهم وأن يتوجهوا بها للعالم.

للتواصل مع الكاتب عبر تويتر

اقـرأ أيـضـًا:

جابر العثرات يكتب: مُرورَ الكرام (٥) – الفضّ للخطابات

جابر العثرات يكتب: مُرورَ الكرام (٤) – المؤامرة واللاهوت

جابر العثرات يكتب: مُرورَ الكرام (٣) – الصياغة ’المرجوشية‘

جابر العثرات يكتب: مرورَ الكرام (٢) – الدولة مجازاً

جابر العثرات يكتب: مُرورَ الكرام (1) ..أدب الحوادث

جابر العثرات يكتب: أنْ تكونَ قارئـاً محنّكاً

 .

تابعونا علي تويتر من هنا

تابعونا علي الفيس بوك من هنا