عمرو منير دهب يكتب: جرأة الانصياع للموضة.. الفصل التاسع والعشرون من كتاب "جينات أنثويّة"

"تشرف اللطائف بصورة أم المحسنين صاحبة السمو والدة الجناب العالي الخديوي السابق تيمناً برجوع سموها بالسلامة إلى مصر في أول هذا الأسبوع بعد غيابها مدة الحرب وترى سموها واقفة وقد جلس بإزائها زوجها المغفور له محمد توفيق باشا الخديوي الأسبق وجلس على الأرض سمو الأمير محمد علي والصورة أخذت طبعاً منذ نيف وثلاثين سنة".

يَرِد ذلك التعليق أسفل صورة تملأ الصفحة الأولى من مجلة "اللطائف المصوَّرة" الأسبوعية المصرية العدد 454 بتاريخ 22 أكتوبر 1923، وأعلى الصورة العنوانُ الرئيس - والوحيد - التالي: "صاحبة العصمة والسمو والدة الجناب العالي الخديوي السابق". الصورة إذن أخذت في العقد الأخير من القرن التاسع عشر؛ أقول ذلك لأن أزياء الجناب العالي وصاحبة العصمة وابنيهما وطريقة جلوسهم/وقوفهم أمام الكاميرا لا يمكن أن تشي بحال إذا طالعناها بأعين هذا العصر بأن تلك هي العائلة الحاكمة/المالكة، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن البلد الذي حكمته تلك العائلة كان حينها مولعاً – بالنسبة لمجتمعاته المخملية – بتتبّع آخر صيحات الأزياء/المودة/الموضة في أشهر العواصم العالمية.

وفي العدد 62 من مجلة "المصوَّر" المصرية بتاريخ 18 ديسمبر 1925 يَرِد التعليقان التاليان تحت صورتين ضمن أربع صور تملأ الصفحة الأخيرة بعنوان "في عالم المرأة"؛ التعليق الأول: "الأزياء الباريسية: ملابس للسهرات ويلاحظ فيها ضيق فتحات الصدر. وربما كان ذلك لما تنبأ به بعض الفلكيين من اشتداد البرد في هذا الشتاء"، والتعليق الثاني: "عيد القديسة كاترينة شفيعة عاملات المخازن والخياطات وغيرهن من الفتيات اللائي يأكلن عيشهن بعرق الجباه والعمل المتواصل النهار بطوله وساعات في الليل. وتمثل هذه الصورة منظرهن وقد ملأن شوارع باريس بالملابس الأنيقة الزاهية يضحكن ويلعبن ويرقصن. وقد شاركهن الأهالي في هذا العيد اعترافاً بخدمتهن وعملهن للحياة ومساعدة الآباء والأمهات على تخفيف أعباء العيش في هذه الأيام".

أمّا العدد 73 من مجلة "المصوَّر" المصرية بتاريخ 5 مارس 1926 فقد وردت فيه التعليقات التالية تحت ثلاث صور ضمن خمس ملأن الصفحة الأخيرة تحت العنوان نفسه "عالم المرأة"؛ التعليق الأول: "آخر زي من أزياء قص الشعر. ويرى القارئ أن الفرق قد أصبح على جانب يزينه مشط محلى بالأحجار الزجاجية اللامعة"؛ التعليق الثاني: "مودة القبعات النسائية للربيع القادم. وهي من القش ومحاطة بإطار من القطيفة. ولها رابطة من الخلف. وقد روعي فيها الضيق وصغر الحجم لتوافق صاحبات الشعر المقصوص"؛ التعليق الثالث: "أقام النادي السوري بالإسكندرية حفلة راقصة تجلَّى فيها الجمال والفن بما تحلَّت به السيدات والأوانس من مختلف الأزياء. وأعلاه صورة مدام عبد الله زمار التي أحرزت الجائزة الأولى لإتقانها الزي الغريب".

مطالعة تلك الأمثلة التي انقضى عليها نحو مائة عام وأكثر لا تخلو من العبر العميقة، لكن ما نحن بصدده الآن يتعلّق بالموضة، وتحديداً علاقة المرأة بالموضة. وإذا كنت قد كتبتُ منذ بضع سنوات في إهداء "كل شيء في الحياة موضة" ما يلي: "إلى النساء وإلى الشباب بوصفهم الأجرأ في لعبة الموضة"، وطُلب منّي الآن – على سبيل الافتراض الجدلي - أن أخصَّ طرفاً واحداً فقط بالإهداء فسأختار المرأة لا ريب، ذلك أن جرأة حواء في الانصياع للموضة وإلهام صنّاعها تتجاوز الشباب بصفة عامة، وهي جرأة ليست حديثة كما يتّضح - على سبيل المثال - من الكلمات الأخيرة في الاقتطاف السابق، فقد فازت مدام عبد الله زمار بالجائزة الأولى لإتقانها "الزي الغريب" لا الزي الجميل على وجه العموم.

هذا، ونقرأ في "كل شيء في الحياة موضة" تحت عنوان "المرأة والموضة" ما يلي: "مع المرأة نغدو أمام واحدة من أظهر حالات مواجهة فكرة الموضة جرأة، إن لم تكن أجرأ تلك الحالات على الاطلاق، فحواء وحدها مَن ظلّ يعدو نحو الموضة بإصرار وثقة غير عابئة بوابل الغمز واللمز المتواصل من المجتمع عموماً، ومن الرجل تحديداً (وحصراً؟) بطبيعة الحال. فإذا صحّ زعمنا بأن الموضة من جواهر أفكار الحياة المتمكنة من نفوسنا وليست مجرد قشرة من أظهر قشورها كما يروِّج منتقدوها، فإن المرأة لا تُعَدّ سبّاقة فحسب إلى التقاط تلك الجوهرة وإنما رائدة في الصبر على مكاره إشانة السمعة جرّاء العدو خلف سفاسف الأمور كما ظل يتلذذ مكايدوها (الرجال وحدهم؟) بالترويج بشأن صنيعها إزاء الموضة... لا تزال حواء هي المتسيِّدة لعالم الأزياء، فمشاركات آدم لا تزال خجولة تمثل استثناءً في عالم الرجال حتى لدى أكثر المجتمعات تحرراً، فضلاً عن الفكرة الأساس التي لا تزال حواء مستمسكة بها بقوة (ومن قبل بتلقائية) في ما يتعلق بالنظر إلى الموضة كمسألة جوهرية في الحياة دون مبالغة في تأكيد الفكرة بأكثر من الإصرار السلس وبما لا يخلو من المخاتلات الذكية المعهودة عنها".

جرأة حواء في الانصياع للموضة هي في الواقع مثال لجرأتها بصفة عامة؛ تلك الجرأة التي رأينا في المقتطف أعلاه من "كل شيء في الحياة موضة" أنها تبدو ظاهرية فحسب مع الموضة، لكنها في الواقع – وبما لا يقف عند حدود مفهوم الموضة وحده – جوهرية بما يتجاوز التوقعات، توقعات آدم على وجه الخصوص.

للتواصل مع الكاتب: [email protected]

نرشح لك: عمرو منير دهب: أيهما أكثر إيثاراً؟.. الفصل الثامن والعشرون من كتاب "جينات أنثويّة"