عمرو منير دهب يكتب: المرأة بوصفها منتمية إلى أقلّيّة.. الفصل السادس من كتاب "جينات أنثويّة"

عبر برنامج "60 دقيقة" أشاد باراك أوباما بهيلاري كلينتون قائلاً: "أردت فقط أن تتاح لي الفرصة لأشكرك على الملأ، لأنني أعتقد أن هيلاري سيخلّدها التاريخ بوصفها واحدة من أبرز وزراء خارجيتنا على الإطلاق".

لكن الصحفي الأمريكي مايكل هيرش Michael Hirsh يرى غير ذلك، أو - للدقة – لا يشارك الرئيس الأمريكي رأيه بحذافيره، وذلك كما يتّضح في مقاله The Clinton.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: حواء في ظلال السلطة.. الفصل الخامس من كتاب "جينات أنثويّة"

 Legacy "إرث كلينتون" المنشور في مجلة Foreign Affairs بتاريخ 1 مايو 2013، نقلاً عن ترجمة طارق راشد بمجلة الثقافة العالمية (عدد يوليو-أغسطس 2019) الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت. يقول هيرش: "كان لدى الرئيس سبب وجيه للشعور بالامتنان لكلينتون (هيلاري)، فجهوده اللينكولنية (نسبة إلى أبراهام لينكولن)، الساعية إلى تشكيل فريق من المتنافسين، آتت ثمارها، والفضل في ذلك يرجع إلى حد كبير لجهود المصالحة التي بذلتها كلينتون. لقد استطاعت كلينتون – التي أبدت خلال سنواتها الأربع في منصبها قدراً مبهراً من التواضع وضبط النفس بالنسبة لسياسيّة طموح مثلها – أن تُلقي خلف ظهرها بمعركة من أشرس معارك الانتخابات الرئاسية في التاريخ الأمريكي. وبعد أن كانت المرشحة المفضلة الجديرة بترشيح حزبها، حوّلت كلينتون نفسها إلى رسول مخلص ومدافع متحمس عن عقيدة أوباما".

بعدها مباشرة نصل إلى بيت قصيدنا من الاقتطاف عن مقال مايكل هيرش: "لكن، لا امتنان أوباما، ولا رفق كلينتون، ينبغي أن يُشوّشا حكم التاريخ، فبكل مقاييس الدبلوماسية المعروفة سيذكر التاريخ كلينتون بوصفها وزيرة خارجية محنكة جداً، لكن لن يقول إنها كانت وزيرة عظيمة. فعلى الرغم من نجوميتها الكبيرة حول العالم، وشعبيتها في الداخل، وسمعتها التي شاعت بتحيّزها للحق في غالبية القضايا، إلا أن كلينتون تركت منصبها دون أن تترك وراءها نظرية أو استراتيجية مميزة لها أو نصراً دبلوماسياً مؤزراً. ومن المغالاة أن نُدخل كلينتون في زمرة جون كوينسي آدمز، وجورج مارشال، ودين آتشيسون، وهنري كسنجر، وهم بعض أبرز وزراء الخارجية الذين غيّروا السياسة الخارجية الأمريكية تغييراً عميقاً".

حظيت هيلاري كلينتون بشهرة واسعة لا ريب أن قسطاً كبيراً منها يرجع الفضل فيه لزوجها الرئيس بيل كلينتون، وهو أمر لا ينقص من قيمة إنجازها الشخصي وأحقيتها بالظهور البارز على كل حال، وهو ما يؤكده هيرش. لكن ما يعنينا هنا ليس تقييم "إرث كلينتون" بالنظر في إنجازات هيلاري بوصفها مرشحة في واحدة من أشهر سباقات الانتخابات الرئاسية أو باعتبارها وزيرة للخارجية الأمريكية، فسياقنا هذا معني تحديداً بتضخيم بعض الإنجازات الأنثوية لاعتبارات عديدة يمكن إجمالها في تشجيع/دعم/تمكين المرأة. والحال كتلك، لا يعني الأمر بطبيعة الحال أنه ليس ثمة إنجازات أنثوية باهرة، بل واستثنائية، وإنما يعني أن الإعلام - المعبّر عن وجهات نظر مؤسسية مختلفة وعن قطاعات عريضة من المجتمع – يضخّم بعض الإنجازات الأنثوية كما لو كان يعرض قضية أقلّيّة يريد لها أن تنال حظها من الظهور، وحظّها من الفُرَص ابتداءً؛ فهل النساء بالفعل أقليّة بذلك المفهوم؟

ما يبدو غريباً بدرجة ما أن ذلك السلوك يحدث في البلد الرائد عالمياً في التقدّم على كل صعيد تقريباً بما يشمل الصعد الاجتماعية وأبرزها تحرّر/دعم/تمكين المرأة؛ إذ من غير المستغرب في المقابل النظر إلى مكانة المرأة في المجتمعات الشرقية بوصفها مثاراً للاهتمام ومدعاة للدعم على صعيد التحرّر والتمكين نظراً لطبيعة المجتمعات الشرقية المحافظة - تاريخياً وفي الحاضر - إلى حد واضح قياساً بالمجتمعات الغربية، وذلك بما يجعل النساء الشرقيات بالفعل كما لو كنّ ينتمين إلى أقلّيّة لا تحظى بحقوقها مناصفة مع الرجال، أقلّيّة نوعية (وأرجو أن يجوز التعبير) لا أقلّيّة عددية، فتعداد السكان يجنح إلى ترجيح العكس في معظم الأماكن والأحوال.

ولكن يبدو أن مفهوم "الأقلية النوعية" هذا لا يزال منطبقاً على أكثر المجتمعات الغربية انفتاحاً وتحرّراً، فالأصوات الداعمة للنساء – على اختلاف المجالات والمقامات - لا تزال متعالية في الغرب بما يجعل من الصعب تجاوز الدلالة الخطيرة التي يمثّلها السؤال التالي الذي يطغى بدوره على سؤالنا في آخر الفقرة قبل السابقة والذي أجبنا (التففنا؟) عليه من خلال ابتداع فكرة الأقلية النوعية: هل يبدو أن قدَر النساء البقاء أبدَ الدهر أقلّيّة؟

قبل الولوج في محاولات الإجابة على السؤال الأخير، ننتقل إلى مثال آخر من ذات البلد الرائد عالمياً ولكن مع مجال عملي مختلف وفي سياق جماعي هذه المرّة؛ فلاعبات منتخب الولايات المتحدة لكرة القدم للسيدات يرين أنفسهن جديرات بتقدير أكبر (تحديداً أجور ومكافآت مالية أعلى) مما يحظى به نظراؤهن في منتخب الرجال، لا سيما أنهن – والكلام لا يزال لهنّ – قد حقّقن إنجازات عالمية لم يعرف فريق الرجال لها سبيلاً، وأبرزها كأس العالم للسيدات؛ كما أنهن اعتلين قمة تصنيف الفيفا لأمد طويل، بل إن أسوأ ترتيب لهن على قائمة الفيفا كان الثالث، وذلك مقابل فريق الرجال الذي لم يذق طعم كأس العالم ولو مرة واحدة، وكان أفضل إنجازاته على قائمة تنصيف الفيفا المركز الرابع لأمد قصير فضلاً عن أسوأ إنجازاته متمثّلاً في احتلاله المركز السادس والثلاثين على ذات التصنيف.

غير أن ذلك ليس كل ما في الأمر، إذ تواصل لاعبات المنتخب الأمريكي لكرة القدم انتقاد الرجال عموماً وهم يلعبون الكرة فيعمدن إلى مقارنة أدائهن "البطولي" في الملاعب مقابل "تمثيليات" الرجال المتواصلة من أجل الحصول على ركلة حرة أو ضربة جزاء على سبيل المثال. لا يقف رجال منتخب الولايات المتحدة لكرة القدم مكتوفي الأيدي أمام تلك الاتهامات فيُجملون دفاعهم في ردّ واحد تقريباً مفاده أن البطولات النسائية برمّتها لا ترقى إلى أهمية بطولات الرجال، فكأس العالم للسيدات جمهوره بضعة عشرات من الملايين في مختلف أرجاء العالم مقابل مئات الملايين (ما يقرب من المليار) لبطولة الرجال.

السبب الأخير بدا بمثابة الحجة الدامغة وقد تعلّق الأمر بالأجور التي من حق كل فريق أن يتلقّاها، فالمسألة على ذلك الصعيد تبدو كما لو كانت تجارية بحتة: مَن يجني قدراً أعلى من العائدات يحصل على أجر أعلى بما يتناسب مع الأرباح التي تحصدها المؤسسات الداعمة على الجانبين. ولكن مسألة إنجازات النساء المتحققة بالفعل، أو حتى تلك المحتملة لو أتيحت للنساء كل الفرص الممكنة، هي لا ريب أشدّ تعقيداً من أن تُقاس بالمال الذي تعود به الأعمال/الإنجازات النسائية في مختلف الصعد مقابل ما يعود به الرجال في المقابل، فالسؤال المباشر هنا هو: رغم الإنجازات الفريدة، بل الاستثنائية، المتعددة التي حققتها المرأة بما يؤكد قدرتها في كل مجال، لماذا لا يزال التفوّق في إنجازات الحياة العملية بصفة عامة من نصيب الرجال؟

إذا كانت قدرة المرأة على اقتحام المجالات العملية كافة والبروز فيها على المستويات الفردية في كثير من الأحيان ترقى إلى ما يحرزه الرجال، فما العائق دون بلوغ الإنجازات الأنثوية على المستويات الجماعية المراتب التي تبلغها إنجازات الرجال الجماعية بحيث تتلاشى غلبة "الذكورية" على المجتمعات وتختفي الشكاوى – على سبيل المثال - من التنمّر على النساء وتهميش أدوارهن في الحياة العملية تبعاً لذلك؟ هل للأمر صلة بطبيعة تكوين المرأة جسمانياً وعاطفياً أم أنه فقط بداعي انشغالها أساساً بدورها في البيت متمثلاً في كونها عماد الحياة العائلية فيما يتعلّق بمسؤوليات الإنجاب والتنشئة وإدارة سائر شؤون البيت حتى عندما تكون مضطلعة بأدوار أساسية بارزة في الحياة العملية على الصعيد العام؟

ربما لا تزال المرأة بالفعل منتمية إلى "أقلية نوعية" بالنظر إلى إنجازاتها في الحياة العملية قياساً بسيطرة الرجال على الصعيد نفسه، دون أن ننسى - كما أشرنا مراراً – نجاح حواء في إثبات إمكانية بروزها على المستويات الفريدة في كل صعيد؛ وربما يكشف المستقبل قريبه أو بعيده عن المزيد من المفاجآت الأنثوية على هذا النطاق، فكثير ممّا حققته المرأة في عالمنا اليوم لم يكن يخطر ببال منذ زمن قريب. ولكن، مهما يكن، لا يمكن بحال النظر إلى فكرة "الأقلية النوعية" بوصفها منطبقة على المرأة بصفة مطلقة، فمكانة حواء في الحياة بصفة عامة تجعلها لا ريب منتمية إلى "أكثرية نوعية" بالنظر إلى دورها المحوري الذي تنهض به كاملاً في تشكيل وإدارة شؤون العائلة حتى عندما تكون مضطلعة بمهام أساسية في الحياة العملية إلى جوار نظيرها الرجل، ودون إغفال ما هو أجلّ خطراً متمثلاً في تأثيرها على ذلك المغرور الذي يزعم الاضطلاع بعبء الحياة العملية الأكبر ويتوهّم اتخاذ قراراتها المصيرية من تلقاء نفسه.