عمرو منير دهب يكتب: حواء في ظلال السلطة.. الفصل الخامس من كتاب "جينات أنثويّة"

"إنها امرأة آسرة لأنها تمثّل واحدة من أندر نساء العالم الذي يحكمه الرجال، وقد قالت: لست متغطرسة ولكني أعرف كيف أستخدم غطرسة الرجال".

يواصل الصحفي والناشط البريطاني ألاستر كامْبِل Alastair Campbell في تمهيده لكتاب ANGELA MERKEL, L'OVNI POLITIQUE للصحافية الفرنسية Marion Van Renterghem ماريون فان رنترغيم، نقلاً عن الترجمة العربية الصادرة بعنوان "أنجيلا ميركل: سحر السياسة" عن دار "جرّوس بِرِسْ ناشرون" ببيروت سنة 2019: "هي امرأة لها حياة خاصة ولها دور شعبي جداً في الوقت ذاته. فهي تفضّل أن تعود إلى شقتها المتواضعة كل مساء، حيث تسكن مع زوجها، على أن تعيش في رخاء المستشارية".

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: حواء وصلات القُربَى المختلفة مع الرجل.. الفصل الرابع من كتاب "جينات أنثويّة"

بحسب ما ورد على لسان ألاستر كامبل، تتّهم أنجيلا ميركل الرجال بالغطرسة، وفي الوقت ذاته تنفي عن نفسها هذه التهمة، لكنها لا تكتفي بالقول بأنها تعرف كيف تتعامل مع تلك الغطرسة بل تؤكّد أنها تعرف كيف تستخدمها. هذه ملاحظة/لمحة هامشية في سياقنا؛ فنحن هنا معنيّون من قصة أنجيلا ميركل بالنظر إلى بطلة القصة كيف تتصرف وهي تحظى بأرفع منصب سياسي في ألمانيا التي هي واحدة من أشدّ الدول الأوروبية تأثيراً على مختلف الأصعدة وذات حضور عالمي بارز وفريد، وقد كان "تمهيد" السيد كامبل وحده – في الكتاب - كفيلاً بأن يطلعنا على بُغيتنا في غضون ما يشير إليه الاقتطاف الأخير الذي يؤكد مكانة ميركل الطاغية على صعيد العمل العام وبساطتها المتجلية في إصرارها على العودة كل مساء إلى شقة متواضعة مع زوجها عوضاً عن التمرّغ في رخاء المستشارية.

في الواقع، أنجيلا ميركل مجرد مثال عابر – لا يعدم خصوصياته المتعددة - بالنسبة لسياقنا هذا، فنحن - للدقة – ننقّب عن تفاصيل سلوك حواء مع المناصب/الألقاب المختلفة المتعلقة بالسلطة والشأن العام إجمالاً وليس تحديداً عندما تتقلّد أرفع منصب سياسي في دولة كألمانيا ذات تاريخ مؤثر بوضوح في أوروبا والعالم الحديث قاطبة.

في سيرتها الذاتية بعنوان Becoming، نقلاً عن الترجمة العربية بعنوان "وأصبحتُ"، التي اختلسنا النظر إليها في المقال السابق، ثمة الكثير مما يمكن أن يفيدنا في هذا السياق مع ميشيل أوباما Michelle Obama التي تقلّدت بدورها منصباً رفيعاً بوصفها "السيدة الأولى" لثمانية أعوام متواصلة في البلد الأبرز في العالم قاطبة. ولكن – مجدداً – ليس بما يمكّننا من الاطّلاع على الصورة النموذجية المرتقبة بالضرورة لامرأة تحظى بتلك الدرجة من السلطة المؤثرة وإنما في ظلال خصوصية شخصية ميشيل أوباما بوصفها سيدة تميل في صورتها الظاهرة للجماهير إلى أن تبدو شخصية بالغة التعقّل. على كل حال، ما نودّ الاطّلاع عليه من سيرة ميشيل أوباما هنا ليس متعلّقاً بصاحبة السيرة الذاتية وإنّما بأمّها وقد غدت "والدة السيدة الأولى".

تقول ميشيل أوباما: "لم تشأ أمي أن تأتي معنا إلى واشنطن، لكنني ضغطت عليها لإقناعها. فالفتاتان كانتا بحاجة إليها، وكذلك أنا. وأحببت أن أصدّق أنها كانت بحاجة إلينا أيضاً. فخلال السنوات القليلة الماضية كان حضورها شبه يومي في حياتنا، ومثّلت أفكارها العملية حلّاً لهموم الجميع. إلّا أنها، وطوال سنواتها الإحدى والسبعين، لم تُقِم خارج شيكاغو قطّ، فتردّدت في مغادرة الجانب الجنوبي لشيكاغو ومنزلها في جادّة يوكليد. وقد قالت لأحد الصحافيين بعد الانتخابات بصريح العبارة: أحب هؤلاء الأشخاص، لكنّني أحبّ منزلي. البيت الأبيض يذكّرني بمتحف. كيف يمكن للمرء أن ينام في متحف؟".

تواصل ميشيل: "حاولت أن أشرح لها أنها بانتقالها إلى واشنطن ستلتقي كثيراً من الأشخاص المثيرين للاهتمام، ولن يكون عليها أن تطهو أو تنظف المنزل بمفردها، كما ستخصَّص لها في الطابق الأعلى من البيت الأبيض مساحة أكبر ممّا كان لها في منزلها. لكنّ ذلك كله لم يعنِ شيئاً لتلك المرأة المنيعة في وجه كل أشكال الرخاء والشهرة. في النهاية، اتصلتُ بكريغ وقلت له: "عليك أن تكلّم أمّي بالنيابة عنّي وتقنعها بمرافقتنا". ونجح الأمر، فكريغ كان بارعاً في الاقناع عند الحاجة".

هنا حالة أخرى لامرأة مقاومة للرخاء، بل وللشهرة أيضاً؛ وهي وإن تكن جديرة بالإعجاب، فإن مقاومتها تلك مفهومة – وربما متوقّعة – في إطارين: الأول سنّها المتقدّم، والثاني هو الخوف من التجربة الجديدة مهما تكن مثيرة أو واعدة؛ والإطاران كما هو واضح يفضي أحدهما إلى الآخر.

ليس فقط في أضواء المثالين السابقين، ولكن بأخذ أكثر وأوسع الأمثلة المتاحة على قدر المستطاع في الاعتبار، ليس من الممكن إصدار حكم قاطع على سلوك حواء في أي منصب بما يتجاوز الانطباعات العامة (ليست انطباعات الرجال فقط وإنما انطباعات النساء أنفسهن عن ذواتهن).

مهما يكن، تظلّ استجابات حواء انطلاقاً من مواقع السلطة والشهرة مغرية بحشرها في قوالب الانفعال/الاندفاع الزائد والرغبة الجامحة في استغلال النفوذ بما يخدم تطلّعاتٍ شخصية صرفة. ليست من مشكلة ابتداءً في الاعتراف بذلك التنميط، ولكن يبقى الجدير بالتأمّل أنّ ولوج المرأة إلى/اقتحامها الحياة العملية والشأن العام لم يسفر عن فشل يمكن زعمه بسبب ما كان متخيّلاً من انفعالاتها/استجاباتها المنمّطة بل أسفر عن نجاح واضح من قِبل المرأة في الاضطلاع تقريباً بكل دور درج الرجل على أن يقوم به على امتداد تاريخ البشرية، وفي كل ذلك لم تقدّم حوّاء من الحماقات ما يمكن أن يفوق ما قام به الرجال بالفعل على مدى أية حقبة منتقاة من التاريخ.

نجحت المرأة إذن في إثبات أنها قادرة على النهوض بأية مسؤولية في مواقع الحياة العملية المختلفة وشؤونها العامة بصرف البصر عن حقيقة/دقة تأثير انفعالاتها واستجاباتها على أدائها في تلك المواقع، وإن يكن التحدّي الأبرز الذي لا يزال يواجه حوّاء يتمثّل في السؤال عمّا إذا كانت المرأة قادرة بالفعل على الصعود بأدائها في الحياة العملية والشأن العام من مجرد تقديم نماذج متعددة على صعيد إثبات الذات – أيْ إثبات إمكانية قيام المرأة بتلك الأدوار التي ظلّت لأمد طويل حكراً على الرجال - إلى ما يرقى إلى منزلة المناصفة كمّاً ونوعاً مع الرجل. ذلك على الأرجح مرتبط بتحدٍّ يمثّله تساؤل آخر متعلّق بالمسؤولية الأساسية عن الإنجاب وتبعاته وإدارة شؤون المنزل اليومية مما برع فيه الرجل بدوره على سبيل إثبات الذات، أيْ إثبات الرجال عدمَ استنكافهم القيام بأدوار ظلّت لأمد طويل حكراً على النساء.