رواية دكتور فاوست بين الترجمات العربية والدراما

د. نرمين سعد الدين                      رواية دكتور فاوست           

بعد اتهام أحد الكتاب الشباب صناع مسلسل “وعد إبليس” بسرقه روايته خطط شيطانية ووضع نقاط التشابه بين العملين والتي بدأت بتيمة التحالف مع الشيطان ليقع في براثن تلوث الروح والعهد الأبدي، تلك التيمة التي هي بالأساس مأخوذة من رواية مأساة دكتور فاوست والتي تم استخدامها في الدراما وترجمت للعربية في ترجمات عدة وأعمال درامية مختلفة.

دكتور فاوست شخصية حقيقية تاريخية عاش في بداية القرن السادس عشر الميلادي، وانشغل بالشعوذة، وأوهم من حوله أنه ساحر ضليع، فكان يبتز أموالهم ويقرأ لهم الطالع ويعالج مرضاهم بالشعوذة، وعندما مات ميتة عنيفة سنة 1540م نسبوا ذلك للشيطان، وبهذا ولدت أسطورة فاوست وانتشرت.

نرشح لك: أحمد فرغلي رضوان يكتب: ويسألونك عن مطربة مصر الأولى

إن فكرة الرجل الذي باع نفسه للشيطان فكرة ليست جديدة، وليست من ابتكار عصر النهضة، بل هي وليدة العصور الوسطي.

وتدور قصة فوست المتداوله حول عالم من فيتنبرج، ولد في أواخر القرن الخامس عشر، وتوفى على الأرجح في سنة 1543، وكان من المقرر أن يكرس فاوست حياته لدراسة اللاهوت، فهجره للإلمام بالسحر والعلوم الغيبية، وكان يتمتع هذا العالم بصفات طبقاً للرواية الألمانية صفات كانت سائدة في عصر النهضة، هي حب الاستطلاع، والتيقظ الذهني، والولع بالجمال، والتحمس لكل ما هو قديم كلاسيكي، ساحر مصمم ثابت العزم.
لقد كان فاوست نموذجاً للإنسان الساعي إلى مزيد من القوة، أو الكمال، بوسائل خارجة عن الطبيعة، هي ما تعرف بالسحر، بأوسع معانيه؛ فالمستقبل مجهول، وهو يريد معرفة ما سيجيء به، والقوة الطبيعية الميسورة له قاصرة، فليبحث عن قوى خارقة كي يسخرها لتنفيذ ما يصبو إليه، والطبائع الموجودة في الواقع تقف في سبيله، أو تعجز عن أداء ما يطلب، ولما كان السحر تحدياً للألوهية؛ لأنه يدفع إلى خرق النظام الذي خلقته، فإنه استعان بقوى متمردة على الألوهية، على رأسها الشيطان.

ولقد مضى فاوست مع الشيطان عقدا أصبح بموجبه قادراً على الإتيان بخوارق الأشياء وبالرغم من هذا انتهت حياة فاوست في النهاية فقيراً معدماً، حتى من روحه التي كان قد باعها للشيطان، حيث تاب بعد الأربعة والعشرين عاماً من هذا الاتفاق.

وتنوعت الكتابات والترجمات الأجنبية بين الشر المطلق للبطل والصفات سابقة الذكر وكونه طالب علم عظيم يعتمل بداخله صراع قوى بين ضميره، ورغباته، وشهواته الجامحة، والصراع بين ملكي الخير والشر، وأدخال الخطايا السبع المميتة من ميراث العصور الوسطى بالرواية.

وشاعت شهرة تلك الرواية وجذبت قصة الرجل الذي باع نفسه للشيطان العديد من المترجمين والأدباء العرب بخاصة المصريين لتصدي لنقل تلك الرواية وترجمتها للعربية، وتنوعت بين الترجمة الحرفية والكتابة المستوحاة منها.

وكانت قد بدأت أول ترجمة عربية للأديب المصرى دكتور محمد عوض محمد عن النص الألماني عام 1929م إلى شعر منثور في كتابه فاوست، والتي كتب مقدمته الكتور طه حسين ووضع لها دراسة نقدية فيما بعد، وتوالت بعدها الترجمات الأخرى مثل ترجمة إسماعيل كامل، التي نشرتها دار الجيب بالقاهرة، وترجمة مصطفى ماهر وترجمة الدكتور عبد الحليم كرارة في كتابه مأساة فاوست، التي نشرتها دار المعارف بالإسكندرية عام 1959م.

ثم ترجمة دكتور عبد الرحمن بدوي عام 1984، والتي تمت إعادة طبعها مرتين، الأولى في سلسلة أعمال خالدة، بدمشق عام 1998، ثم كتاب فاوست، يوهان فولفجانج فون جوته، بالمركز القومي للترجمة عام 2009م، وتعد ترجمة الدكتور بدوي أهم الترجمات التي ظهرت لتلك الرواية، وتعتبر هى النص الأم بالعربية، والمقدمة التي كتبها دكتور بدوي والتي قاربت ثلاثمائة صفحة تعد مرجعا شاملا عن (جوته وفاوست)، أدبا وفلسفة وتاريخا، ويمكن اعتبارها كتابا قيما مستقلاً بذاته.

وقد بدوي في كتابه فاوست-1، بمعظم الوثائق التاريخية عن شخصية فاوست في هذا الكتاب، وعلى حسب ترجمته فقد مرت حكاية فاوست بثلاث مراحل هي:

المرحلة الأولى: اختلط فيها التاريخ بالأكاذيب؛ وذلك لأن المؤرخين المعاصرين له أو التالين لعصره مباشرة، ذكروا أخباراً بعضها واقعي صحيح، والبعض الآخر روايات يتناقلها الناس، وقد لعب الخيال في بعضها.

المرحلة الثانية: بدأت الخرافات تشاع حول فاوست وهو لا يزال حياً، على شكل روايات شفهية يتناقلها الناس في أسمارهم، ويزجون بها أوقاتهم الفارغة، أو يدهشون بها السامعين، فقد اشتهر عن الرجل أنه فاسق، ملحد، ساحر ممخرق، فراح من يتصلون به يؤلفون عن سلوكه وأفعاله الروايات العجيبة، وراح الخيال الشعبي بدوره يفعل بها الأفاعيل، ويملؤها بالتهاويل، وراح البعض، الأوفر حظاً من العلم بالتاريخ، ينسبون إلى فاوست ما قرأوا من عجائب منسوبة إلى سحرة قدماء سابقين.

المرحلة الثالثة: وفيها انتقلت الحكاية من الشفاه إلى سجلات الكتب، وقبل تحرير الكتاب الشعبي، كانت تتداول مخطوطات كثيرة سجلت فيها نوادر فاوست، ثم وصل نسخة الكتاب الشعبي المذكورة في فتحته المقال تلك النسخة التي قيل أنها عبارة عن مخطوطات بخط يد فاوست ذاته وجدوها طلابه في منزله بعدما توفى ودفنوه.

والمرحلة الرابعة: الكتابات الدرامية المستوحاة من القصة الشعبية كمسرحية فاوست لكريستوفر مارلو، ويرجح بعض النقاد أن الشاعر الإنجليزي كريستوفر مارلو كتب مسرحيته مأساة الدكتور فاوستس في عام 1589متأثراً بالقصة الشعبية المشهورة التي أخذ عنها في القرن السادس عشر مسرحيته، التي عالجها جوته في القرن الثامن عشر فيما بعد وهي المسرحية الشعرية الأشهر في الانتشار والتي وضع لها الدراسات الأدبية والنقدية بكل اللغات، ووصلت تلك القصة عن طريق ترجمة حرة إلى اللغة الإنجليزية في عام 1587 له عن النص الألماني تاريخ الدكتور فون جون فاوست، على يد كاتب مجهول، وصدر هذا الكتاب عن الناشر يوهان أشبيس سنة 1587، في مدينة فرانكفورت على نهر الراين.

وفى نهاية عام 2013 صدر كتاب في جزأين بالهيئة العامة للكتاب، تحت عنوان “فاوست صورة شعرية للشاعر جوته” ترجمة وإعداد وتقديم محمد عنانى، في الجزء الثاني من هذا الإصدار تم نشر مجموعة من قصائد المترجم التي يرى أنها مهمة فى مسار تطور كتابته للشعر والتي لم ينشرها من قبل؛ ربما لصعوبة جمعها تحت مصنف محدد وكما قال إنها تجمع بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة.

وعند تناول النقاد لتلك الترجمته قالوا أنها غير كاملة وتعد الأقل إبداعاً وتميزاً إذ تخير بعض المشاهد فقط من المسرحية وترجمها عن نسخة بغير لغتها الأصلية والتي من الوارد جداً أن تكون قد اصطبغت بطابع وتراث أصحاب تلك اللغة، وضم بها الكثير من قصائد المترجم تقريبا نصف حجم الكتاب وأنها قصائد لا تمت بصلة من قريب أو بعيد للمسرحية الشعرية فاوست أو لمؤلفها حتى تجمع معها في كتاب واحد.

كما عمد بعض الكتاب والشعراء العرب إلى اقتباس قصة فاوست لجوته أو تلخيصها، ومنهم توفيق الحكيم في كتابه عهد الشيطان عام 1938م، ومحمد فريد أبو حديد في رواية عبد الشيطان، ومحمود تيمور في أشطر من إبليس، كذلك فتحي رضوان في رواية دموع إبليس، ومحمود لاشين في ميفستوفوليس، والشيطان يعظ لنجيب محفوظ.

كذلك كتب علي أحمد باكثير مسرحيته تحت مسمى فاوست الجديد في 1967م، وفيها يتناول القصة بمعالجة مختلفة وتصرف جديد حيث استمد فيها جذور رؤيته الإبداعية من خلال فهمه لدينه وإنحاز إلى الحل الإسلامي، ووظف بعض آيات القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية في مسرحيته، وبعض من قصص القرآن ككقصة الخضر وسيدنا موسى التي آشار لها بشكل رمزي بها، ولقد ذهب بعض النقاد الذين تناولوا تلك المسرحية بالنقد أن باكثير مال في كتابته للأسلوب الصوفي، وقسم باكثير مسرحيته إلى أربعة فصول.

كما كتب حامد إبراهيم مسرحية بعنوان فاوست الجديد ومسرحية محمد سالم عقد مع الشيطان، وتآثر هذان الكاتبان في مسرحيتهما بالتصوير الدرامي لقصة حياة فاوست في الأدب الأوروبي خاصة بمسرحية مارلو، وتعد المسرحية الأوبرالية للكاتب سعود الأسدي أوبرا د/ فاوست “قمة أعماله الشعرية في مجال تحويل عدد من مسرحيات الأوبرا لشعر مسرحي باللغة العربية.

وفي المغرب كتب الفنان عبد الكريم برشيد مسرحيته فاوست والأميرة الصلعاء، ويقول النقاد عنها أن برشيد أخذ القاريء إلي عالم شديد الوعي والثراء، يموج بالثورة والتمرد والعصيان، حيث اشتبك مع أسطورة فاوست ورؤي مارلو، وجدل جوته ورومانسية بول فاليري، يستدعي روح المغنية الصلعاء، لتدخل عالمه الجديد كأميرة مسكونة بوهج عشق غجري محموم، وجمال أسطوري منقوص، وهذا الوصف يؤكد على أن تلك المسرحية كتبت فاوست بتناول جديد ومختلف ولم يلتزم بالقصة الأصلية بل استوحى منها ما كتبه.

كما كتب آخرون دراسات أو مقالات تتناول هذا العمل، مثل عباس محمود العقاد في كتاب (تذكار جيجي) وطه حسين في مقدمة ترجمة فاوست لمحمد عوض محمد وعبد الغفار مكاوي في خواطر عن فاوست في كتابه البلد البعي) في 1968م، إضافة إلى المقالات القيمة الواردة في مجلة الفصول القاهرية بالمجلد السادس العدد الرابع عام 1983م.

ولم يتوقف تآثر العرب برواية مأساة دكتور فاوستوس على الكتابات والترجمات بل أنتقل ليحتل حيز كبير في الدراما بجميع أنواعها المرئية والمسموعة منها الذي قدم بنصه المسرحي على المسرح ومنها ما قدم في أعمال سينمائية مستوحاه من الرواية الأصلية أو تقديم أحد الترجمات وتحويلها لعمل درامي كما حدث مع مسرحية باكثير التي قدمت في البرنامج الثاني بإذاعة القاهرة يوم 3 يناير من عام 1983م، ومسرحية فاوست والأميرة الصلعاء الذي عرضت ضمن فعاليات الدورة الخامسة من المهرجان القومي للمسرح بمصر، عبر مشاركة فريق قصر التذوق بسيدي جابر التابع للهيئة العامة لقصور الثقافة، أخراج سامح بسيوني، عن رواية بنفس الاسم للكاتب المغربي عبد الكريم برشيد.

كذلك مسرحية دكتور فاوست، التي قدمت في 27 يونيو 2011 على مسرح قصر ثقافة المنصورة بمصر، ضمن: عروض المهرجان الإقليمي لنوادي المسرح-المنصورة 2011، عن مسرحية فاوست لمارلو، إخراج: محمد عزت، ومسرحية توبة إبليس التي عرضت على مسرح العالى للفنون، التابع لأكاديمية الفنون المصرية في عام 2013م.

وفي السينما قدم الفنان المصري يوسف وهبي عام 1945م فيلم بعنوان سفير جهنم بمعالجة جديدة لقضية الرجل الذي باع نفسه للشيطان حيث لم يكن بطل الفيلم طبيبا بل كان مدرسا، على عكس ما جاء في فيلم للفنان المصري محمود المليجي في خمسينيات القرن الماضي والذي يعد مستوحى من الرواية بشكل كبير حيث كان المليجي بالفيلم طبيباً، وعلى نهج وهبي قام الفنان المصري عادل أدهم ببطولة فيلم المرأة التي غلبت الشيطان عام 1973م، بمعالجة جديدة للرواية ليحولا البطل من رجل إلى أنثى في تلك المعالجة، والتي قامت بالبطولة النسائية فيها الفنانة نعمت مختار.

وفيلم فاوست الذي قدم بنادى سينما الجيزويت، عام 2011 وإخراج المخرج الروسى الكسندر سوكوروف، وفيلم فاوست هذا المستوحى من عمل جوته، يستعيد القصة النموذجية للمواجهة مع الشيطان على شكل تأمل فى فساد السلطة، وونوس الذي عرض برمضان 2016 بطولة يجيى الفخراني ونبيل الحلفاوي، وتباينت الأعمال الدرامية في تقديم المعالجات للرواية بين المباشرة والتورية فعمدت بعض الأعمال مؤخرا لتقديم حلفاء الشيطان بشكل صريح كما جاء مثلا في مسلسل جمال الحريم وكذلك وتعد أخر التجارب حتى وقتنا الحاضر في الدراما المسلسل المصري وعد أبليس والذي هو موضع القضية المثارة من الكاتب الشاب الذي بالغ في تقديم المباشرة وإظهار الشخصية الشيطانية مجردة تتحدث بلغة صريحة عن الصفقة وعن محاسن التعامل مع الشيطان بينما كان عمل مثل جزيرة غمام الذي قدم في رمضان 2022 مغرق في الرمزية في تقديم نموذج الشيطان البشري بل والإشارة لكثير من قصص الأنبياء في المعالجة وهو ما جعل البعض عند عرض وعد أبليس مؤخرا ينتقدونه بشده ويعقدون المقارنات بين العملين خاصة أنهم قدما في فترة زمنية متقاربه جدا.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: نسخة كلٍّ منّا من الحقيقة.. الفصل العاشر من كتاب “كل شيء إلا الحقيقة”