عمرو منير دهب يكتب: نسخة كلٍّ منّا من الحقيقة.. الفصل العاشر من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

عمرو منير دهب 

هل يعيب الحقيقة أن يكون لها أكثر من نسخة؟ أليس منطقياً أن يكون ثمة أكثر من نسخة للحقيقة أم أن ذلك مجرّد التفاف على الحقيقة نفسها وتهرباً من قسوة (استحالة؟) مواجهتها عبر حيلة استخدام مسكّنات التعابير الملطّفة القابلة للتمرير اجتماعياً وأخلاقياً وربما منطقياً أيضاً كـ “اختلاف وجهات النظر” على سبيل المثال؟

الإجابة على الشق الأول من السؤال مرتبطة بإجابة الشق الثاني منه، فإذا كان ثمة بالفعل أكثر من نسخة للحقيقة سيبدو الأمر كما لو كان محاولة للهروب إذا أصررنا على أن نصف الواقع بالعيب لكونه لا يتضمن حقيقة مطلقة، وإذا صحّ جدلاً أن الواقع يستحق أن يوصف بنعوت كتلك فلن يكون من المفيد إزاء تلك الصدمة – في محاولة مواجهة قسوة حقيقة الحياة مهما تكن – أن نكتفي بالتذمّر. أما محاولتنا للالتفاف على “حقيقة” تعدّد نسخ الحقيقة – لإضفاء صبغة مثالية على الوجود – فستنطوي في ذاتها على “عيب” لا يقلّ فداحة على صعيد التعامل مع الواقع/الوجود الذي يبدو باستمرار أقلّ مثالية بكثير مما نحب أن نعتقد بشأنه.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الحق والخير والجمال.. الفصل التاسع من كتاب “كل شيء إلا الحقيقة”

الإصرار على أن للحقيقة وجهاً واحداً حقٌ لأيٍّ كان، لكن ذلك “الزعم” ينطوي على مهمّة يُعد إثباتها مسألة أقرب إلى المستحيل، إلّا ما كان على سبيل “الإنكار”: رفض وجهات النظر الأخرى والتشبّث بوجهة النظر الذاتية وإلباسها مسوح القداسة بعيداً عن أية اعتبارات عقلانية/منطقية.

أظهرُ الحجج الدالّة على أن للحقيقة أكثر من وجه هو تقلّبنا بين وجهة النظر ونقيضها في الحياة. لكننا عادة ما نتجاوز العبرة الكبرى في ذلك الدرس، وبدلاً من تأمّل مواقفنا بين نسخة الحقيقة “الماضية” ونسختها “الحالية” نفضّل أن نعتبر أنفسنا ارتقينا/اهتدينا من الباطل إلى الحقيقة. ولعل الأكثر تناقضاً على هذا الصعيد أننا نؤثر تفسير الانتقال من الباطل/الضلال إلى الحق/الهدى حتى عندما نرتدّ مرة أخرى إلى نسختنا الأولى من الحقيقة، ومجدداً بدلاً من تأمل ما يفترض أن يكون قد بات في حوزتنا من تجربة أعمق وأعرض في الحياة فإننا نؤثر المقاربة الأكثر سهولة بافتراض أن ما لدينا آنيّاً/حالياً هو دوماً النسخة الوحيدة للحقيقة بصرف النظر عمّا نكون قد خضناه من التجارب من قبل وبإنكار إمكانية أن نرتدّ مرة أخرى إلى نسخة سابقة من الحقيقة أو نتبنّى نسخة جديدة تماماً منها.

كي نقرّ بأن نسخة الحقيقة الأخرى ليست عيباً أو خطأ يكفينا أن نعلم أن الأمر ليس مرتبطاً بمسألة في حساسية وحدّية الالتزام بالمثل والمبادئ قدر ما هو مرتبط بمعارفنا وما يحيط بها من مؤثرات كالبيئة التي حولنا وتجاربنا الذاتية ومراحلنا العمرية وطباعنا التي جبلنا عليها. وقد يرتبط الأمر بأسباب ربما كانت أكثر بساطة من ذلك كالعاطفة الخالصة التي تؤثر علينا تأثيراً عميقاً من حيث ندري ومن حيث لا نحتسب.

في المحاضرة التاسعة – بعنوان “الذاكرة” – من كتابه The Analysis of Mind، الترجمة العربية بعنوان “تحليل العقل” عن دار التكوين بدمشق سنة 2016، يقول بيرتراند راسل Bertrand Russell: “إذا كان علينا أن نعرف – كما يفترض بنا ذلك – أن الصور هي “نسخ” دقيقة أو غير دقيقة عن أحداث ماضية، فإن شيئاً ما أكثر من مجرد حدوث الصور يجب أن يوجد كي يشكل هذه المعرفة. إذ إن وقوعها، بحد ذاته فقط، لا يوحي بأي ارتباط لها مع أي شيء كان قد حدث من قبل. ترى هل يمكننا تشكيل ذاكرة من الصور جنباً إلى جنب مع معتقدات مناسبة؟ من الممكن أن نعتقد أن صور الذاكرة، عندما تحدث في الذاكرة الحقيقية، تكون – أ معروفة على أنها نسخ ب – أحياناً معروفة على أنها نسخ ناقصة. فكيف يمكن أن نعرف أن صور الذاكرة هي نسخة ناقصة دون أن يكون لدينا نسخة أكثر دقة تحل محلها؟… يمكننا القول إن الصور التي ننظر إليها على أنها نسخ دقيقة تقريباً عن وقائع ماضية ترد إلينا مع نوعين من المشاعر: 1) تلك التي يمكن أن تدعى مشاعر الألفة. 2) تلك التي يمكن أن تجمع معاً باعتبارها مشاعر مانحة للإحساس بالماضوية. الأولى تفضي بنا إلى الثقة بذكرياتنا، الثانية تحدد لها أمكنة في الترتيب الزمني”.

يواصل راسل بعدها ببضع فقرات: “حقيقة الذاكرة لا يمكن أن تكون عملية كلياً، كما يود البراغماتيون أن تكون كل حقيقة. إذ يبدو واضحاً أن بعض الأشياء التي أتذكرها سخيفة ولا أهمية واضحة لها بالنسبة للمستقبل، وكون ذاكرتي صحيحة (أو زائفة) يُحكم عليه استناداً إلى حدث ماضٍ وليس استناداً إلى أي نتائج مستقبلية لاعتقادي. إن تعريف الحقيقة بأنها التطابق بين المعتقدات والوقائع يبدو واضحاً على نحو خاص في حالة الذاكرة، باعتباره ليس فقط ضد التعريف البراغماتي، بل أيضاً ضد التعريف المثالي بواسطة الترابط المنطقي”.

لا يعنينا السياق التفصيلي الذي يتحدث من خلاله الفيلسوف البريطاني الشهير عن العلاقة بين الصور وذاكرتنا/ذكرياتنا إلا بقدر ارتباط ما يرد فيه بتشكيل “نسخنا” من الحقيقة التي تبدو – كما يتجلى من سياق راسل التفصيلي هذا – شديدة الارتباط بذاكرتنا التي يصعب التعويل عليها في امتلاك نسخة واحدة مطلقة من الحقيقة حتى على المستوى الفردي، دع عنك التباين بين الأفراد استناداً إلى المتغيرات التي تؤثر في ذاكرة كل منهم. هذا عن الذاكرة فقط من بين المؤثرات التي تحكم نسختنا الحالية من الحقيقة، أما ما وراء الذاكرة من المؤثرات فلن نقول بأنه أكثر خطورة بالضرورة لكنه قطعاً كثير ومتداخل وشديد التعقيد بما يرجّح استحالة الجزم بوجود نسخة واحدة ثابتة من الحقيقة.

نسختي اليوم من الحقيقة قد تكون نسختك غداً منها، وقد نتبادل النسخ تماماً فيغدو كل منّا يسخر من نسخة الآخر من الحقيقة وهو في الواقع يسخر من نسخته السابقة من الحقيقة، يسخر من معتقداته/ذاته التي كانت بالأمس وهو لا يدري أنه قد يعود فيعتنق تلك المعتقدات/الذات مجدداً في الغد.

للتواصل مع الكاتب | [email protected]

عمرو منير دهب