عمرو منير دهب يكتب: أرجوك اكذب عليّ.. الفصل الثالث من كتاب كل شيء إلا الحقيقة

يجيد الإنسان إلقاء اللوم ومسؤولية الخطأ على الغير عندما يتعلق الأمر بـغريزة الدفاع عن النفس إزاء المواقف العاطفية والفكرية وليس التحديات والمؤامرات العملية فحسب. أساليب/تكتيكات إلقاء التبعة على الغير تكاد تفوق الحصر، ولأنها مرتبطة بالدفاع الغريزي عن النفس، فإن تلك الأساليب/التكتيكات لا تحتاج دوماً إلى تعلّم أو تدريب شاق، فهي مما يولَد المرء ولديه استعداد فطري لـ”ارتكابه”، ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن توجيهاً يتلقاه أحدهم – من خبير عركته الحياة أو آخر متخصص أكاديمياً في مجال ذي صلة بالمناورات من أي قبيل – لن يسعفه في ترقية مهاراته في الدفاع عن النفس بإلقاء تبعات أخطائه وأفعاله على الآخرين.

لن ننجرف إلى مزالق محاولات الإجابة على السؤال: هل إلقاء التبعة على الغير جيد أم سيء؟ ففضلاً عن نسبية الأحكام، ما يعنينا في هذا السياق هو بيان لماذا نفعل ذلك وكيف نفعله، ومن الخير التذكير بأنه لا حكم قاطعاً على أي فعل أو سلوك بكونه سيئاً مطلقاً أو جيداً مطلقاً، رغم أنه من المغري دوماً إطلاق إجابة عامة لصالح أي فعل/سلوك أو ضده بحسب مرجعية المجتمع الذي يعيش فيه أيّ منا وبحسب طبيعة أيٍّ منّا بصورة موازية (وأحياناً مقاطعة).

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: حقيقة الحقيقة.. الفصل الثاني من كتاب كل شيء إلّا الحقيقة

سيكون سهلاً إذن القول بصفة عامة بأنه ليس جيداً أن نلقي على الآخرين مسؤولية أفعالنا/أخطائنا وأن علينا أن ننهض بها وحدنا، ولكن التحدي يكمن فيما وراء الرأي/الحكم العريض من تفاصيل لا تؤدي فقط إلى التخفيف من حدّة الحكم أحياناً بل إلى قلب ذلك الحكم رأساً على عقب في كثير من الأحيان، وذلك على قدر ما نملك من جرأة المواجهة مع النفس، وعتادنا من تلك الجرأة يبدو قليلاً على كل حال.

من يجرؤ على معارضة القول بأن الكذب مشين؟ برغم ما يبدو مسلّماً به حول إدانة الكذب فإن إشكالية التفاصيل الكامنة وراء الحكم العام بإشانة سلوك الكذابين تبدو ماثلة بقوة وبصورة أكثر تحدياً مما هو عليه الحال مع سلوك من يلقون بمسؤولية أخطائهم على الآخرين.

لا بدّ أن أيّاً منّا قد اجترح الكذب بصورة أو بأخرى خلال حياته تحت ذريعة ما، لكننا نقف في هذا المقام تحديداً مع سلوكنا ونحن نزاوج بين اجتراح الكذب وإلقاء المسؤولية على الغير، ما يسفر عن التوسّل الذي يجسّده عنوان هذا المقال: أرجوك اكذب عليّ، وهو توسّل مستتر بطبيعة الحال. نحب أحياناً (غالباً؟) أن نصدّق أن فكرة ما حقيقة أو أن أمراً بعينه ينطوي على الحق والخير برغم علمنا (الذي يصل إلى درجة اليقين أحياناً) أن أيّاً منهما ليس كذلك، فنسعى إلى أن نصدّق شخصاً يروّج ما نحب أن نسمعه عن “الحقيقة المشتهاة” وليست “الحقيقة الحقيقية” التي لا نحب (لا نقوى على؟) مواجهتها، وبذلك نبرئ أنفسنا من تهمة الكذب عبر إلقاء مسؤوليته على الآخر الأكثر جرأة وليس الأقل منّا استمساكاً بالمبادئ بالضرورة.

في كتاب EVERYBODY LIES، لسيث ستيفنز – دافيدوتس SETH STEPHENS – DAVIDOWITZ “، الترجمة العربية عن الدار العربية للعلوم ببيروت في نوفمبر 2018 بعنوان “الكل يكذب: البيانات الضخمة والبيانات الحديثة وقدرة الإنترنت على اكتشاف الخفايا”، وتحت عنوان “هل في وُسعنا التعامل مع الحقيقة؟” يقول المؤلف: “قد تجد أجزاء من هذا الفصل محبطة؛ لقد كشف لنا مصل الحقيقة الرقمي عن الاهتمام الواضح بالحكم على الأشخاص استناداً إلى مظهرهم، كما كشف لنا عن استمرار وجود الملايين من الرجال المثليين المنطوين على أنفسهم، وعن نسبة كبيرة من النساء اللائي يستمتعن بتخيّل الاغتصاب، وعن العداء واسع الانتشار ضد الأمريكيين من ذوي الأصول الإفريقية، وعن إساءة معاملة الأطفال خفية، وأزمة الإجهاض خارج إطار القانون، واندلاع غضب عنيف ضد الإسلام ولم يزدد سوءاً إلا عندما دعا الرئيس أوباما إلى التسامح!”.

يواصل سيث ستيفنز – دافيدوتس: “هذه ليست أشياء مبهجة البتة؛ ففي كثير من الأحيان، بعد أن أنتهي من إلقاء محاضرة حول بحثي، يتقدم الناس نحوي ويقولون لي: سيث، كل شيء غاية في الإثارة، ولكنه أيضاً غاية في الإحباط! لا أستطيع التظاهر بخلو بعض هذه البيانات من السوداوية، وإذا اعتاد الناس على إخبارنا بما يعتقدون أننا نود سماعه، فسيخبروننا عموماً بأشياء تبعث على الراحة أكثر مما تبعثه الحقيقة، وسيُظهر لنا مصلُ الحقيقة الرقمي في المتوسط بأن العالم أسوأ مما كنا نعتقد”.

“مصل الحقيقة الرقمي” تعبير موفق وعميق، لكن سيث يقف به على الأرجح عند حدود ما يمكن أن تكشفه بيانات جوجل مما نكنّه في أنفسنا وتفضحه محركات البحث والتطبيقات الإلكترونية الحديثة على اختلافها، وهذه ليست هينة على كل حال، فنحن قد نمارس “الحقيقة” خلسة ونحن وحدنا أمام شاشة جوجل أو أي من برامج التواصل ثم نعود عقب الانتهاء من “الخلوة الإلكترونية” لنرتدي قناع “الحقيقة الأخرى” التي نحب أن نواجه من خلالها العالم، “عقد اجتماعي” من نوع ما، أو بالأحرى “تواطؤ” اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي ورياضي وإعلامي، وهلم جراً.

هذا عن “مصل الحقيقة الرقمي”، أما “مصل الحقيقة” مطلقاً فأمره أدهى، فنحن لا نبدو أصلاً مستعدين لتعاطيه في أغلب الأحوال، وربما كنّا نفضّل عليه في كثير من الأحيان “مصل إخفاء الحقيقة” أو – على نحو أكثر مراوغة – “مصل تلطيف الحقيقة”.

الحقيقة الخالصة – بقدر ما يمكن الوقوع عليها – تبدو في الغالب غليظة إلى حد بعيد، ولكن ألم يبلغ الإنسان من النضج بعد ما يكفي لاستيعابه صدمة الحقيقة مهما تكن قاسية؟ الإجابة يمكن التماسها في تعبير “مصل تلطيف الحقيقة” الوارد قبل قليل، ولا أحد يعلم “حقيقة” رغبة الناس الجامحة في “تلطيف” الحقيقة مثل القادة الذي حكموا الناس على امتداد الزمان واختلاف بقاع الأرض ومعتقدات سكانها، وذلك عبر تفنّن تصعب الإحاطة به في تفسير المراد بكلمة “تلطيف” وفي تأمّل تجليات تطبيقها.

للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي ([email protected])