عمرو منير دهب يكتب: حقيقة الحقيقة.. الفصل الثاني من كتاب كل شيء إلّا الحقيقة

“الحقيقة، كما يجري تعريفها في أي معجم، هي خاصية أو صفة مميزة لبعض أفكارنا. وتعني “توافق” هذه الأفكار، مثلما تعني كلمة الزيف عدم توافق الأفكار، مع “الواقع”. والبراغماتيون وكذلك أصحاب المذهب التعقلي intellectualists يقبلون بهذا التعريف على أنه شيء طبيعي ومتوقع. ولم يبدؤوا بالشجار حوله إلا بعدما أثيرت هذه المسألة بخصوص ما المقصود بدقة بكلمة “توافق” وكلمة “الواقع” عندما تؤخذ كلمة الواقع على أنها شيء تتوافق معه أفكارنا. وعند الإجابة عن أسئلة كهذه نرى البراغماتيين أكثر تحليلاً وأكثر اجتهاداً بينما يكون التعقليون أكثر توجهاً نحو الارتجال والبعد عن التأمل والتفكير. تقول الفكرة السائدة عموماً إن الفكرة الصحيحة يجب أن تكون نسخة لواقعها. وهذا الرأي، مثل غيره من الآراء الشعبية السائدة، يتبع تشبيهاً لخبرة عادية جداً. أفكارنا الصحيحة عن الأشياء المحسوسة تشكل نسخة لتلك الأشياء بكل تأكيد”.

هكذا يبدأ الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس William James تحليله لـ”مفهوم البراغماتية عن الحقيقة”، وهو عنوان المحاضرة السادسة من سلسلة محاضرات ألقاها في مدينتي بوسطن ونيويورك أواخر عام 1906 وبداية عام 1907 ضمّها كتاب Pragmatism ، النسخة العربية بعنوان “البراغماتية” عن دار الفرقد بدمشق عام 2014. مهما يَكن من انحياز طبيعي للمدرسة الفلسفية التي أسسها (مع تشارلز ساندرز بيرس Charles Sanders Peirce)، فإن وليم جيمس يبدو محقاً ليس فقط في ذهابه إلى أن “البراغماتيين أكثر تحليلاً وأكثر اجتهاداً”، بل حتى لو ذهب إلى أن البراغماتيين هم الأكثر جرأة في مواجهة الواقع/الحقيقة. وبغض النظر عمّا إذا كان الفيلسوف الشهير قد قال ذلك حرفياً في أي من المحاضرات الثماني التي ضمّها الكتاب أو لم يقله، فإن تلك تكاد تكون الفكرة التي تقوم عليها مدرسته الفلسفية التي يمكن الجدال حول أي من أفكارها ربما باستثناء تلك “الحقيقة”: الجرأة (القصوى؟) على الصعيد العملي في مواجهة “حقائق” الواقع والصمود أمام التداعيات “الأخلاقية” الخطيرة التي تثيرها مصطلحات ساعدت البراغماتية في ترويجها على نطاق عظيم من قبيل “الذرائعية”.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الجدارة بالشهرة.. الفصل الأخير من كتاب لوغاريتمات الشهرة

للحقيقة أكثر من وجه، بل أكثر من نسخة بتعبير أدق كما في المقولة الشهيرة. ربما لا مناص في هذا المقام من أن نعيد سريعاً تأكيد أن الحقيقة تختلف باختلاف وجهة نظر قائلها انطلاقاً من أفكاره أو مشاعره أو حتى مصالحه الخاصة. الأكثر إرباكاً – وتصعيداً للتحدي على صعيد مواجهة تعريف الحقيقة و”حقيقتها” – هو ما يجابهه أي منّا مع شخص ما أو فكرة محددة أو عاطفة بعينها أو حتى مصلحة تخصه، سنجد أن مواقفنا وانحيازاتنا ليست بالثبات الذي نظنّه ونحن نواجه الشخص/الفكرة/العاطفة/المصلحة أول الأمر. تتغير آراؤنا وانفعالاتنا إزاء الموقف نفسه على مدى حياتنا – وأحياناً خلال فترات وجيزة جداً – تغيّراً واضحاً يصل أحياناً إلى حدّ التضادّ/التناقض، تناقضنا مع أنفسنا، أو – بتعبير آخر لمزيد من الدقة – مع نسختنا/نسخنا السابقة من أنفسنا، تناقضنا إزاء “الحقيقة” التي كنا ننافح دونها على صعيد أخلاقي أو عاطفي أو عملي ليس انقلاباً إلى “الباطل” أو “الزيف” وإنما انتقالاً إلى ما بات بمثابة “الحقيقة” الجديدة التي نظنها خالدة بدورها حتى تدهمنا مفاجأة من عيار ثقيل تسلمنا إلى “حقيقة” أخرى نراها أجدر بالخلود حتى إشعار آخر لا نكون مهيّئين له ابتداءً في الغالب.

بالعودة إلى محاضرة وليم جيمس عن “مفهوم البراغماتية عن الحقيقة”، وإجابة على سؤال حول “القيمة الفعلية للحقيقة بعبارات تجريبية”، نقرأ: “الأفكار الصحيحة هي تلك التي نستطيع تمثلها وفهمها وتثبيتها وتعزيزها. أما الأفكار غير الصحيحة فهي تلك التي لا نستطيع ذلك بها. وهذا هو الفرق العملي الذي يتبين لنا عندما يكون لدينا أفكار صحيحة؛ وهذا هو، إذاً، معنى الحقيقة، وهذا كل ما تُعرف به الحقيقة”.

يواصل جيمس: “هذه هي الفرضية التي يتعين عليّ أن أدافع عنها. إن حقيقة فكرة ما ليست خاصية راكدة وساكنة وكامنة فيها. فالحقيقة تحدث للفكرة. وتصبح صحيحة، أو تصيّرها الأحداث حقيقة. وصدقها هو في حقيقة الأمر حادثة، وعملية بمعنى أن العملية هي ما يؤكد صحة ذاتها ويؤكد التحقق من صدقها. وصحتها هي عملية تأكيد الصحة”.

ينتقل الفيلسوف البراغماتي بعدها مباشرة لبيان المقصود بالكلمتين “التحقق من الصحة verification وإثبات الصحة validation براغماتياً”، مشيراً إلى أن الكلمتين ترمزان إلى “نتائج عملية معينة للفكرة التي يجري التحقق من صحتها وإثبات صحتها”.

بالنسبة لغير المشتغلين بالفلسفة أو المهتمين بالقضايا الفكرية العميقة بصفة عامة، فإن كلمات وليم جيمس السابقة هذه وما يتلوها في المحاضرة/الكتاب تبدو ملغزة بدرجة أو بأخرى، ولكن المهم في سياقنا هذا الانتباه إلى أن تلك الكلمات ظلت تجنح إلى تفسير المراد بالحقيقة من وجهة نظر براغماتية بحتة مع بدايات تشكّل ملامح المدرسة التي بدت جريئة بصورة واضحة كما رأينا إزاء اقتحام المصطلح من حيث كان الناس يهابون اقتحامه ويتجنبونه إلى حدّ بعيد.

ولكن “لغز” الحقيقة بحاجة لمواجهته إلى ما يتعدّى الجرأة، أو لنقل إلى جرأة تتحلّى بمدى واسع من المرونة وقدر عميق من الانفتاح، ليس بالنظر إلى النتائج العملية على أرض الواقع فقط بل بما يشمل كذلك الممكن تصوّره على أي نطاق من الخيال على قدر ما يكتسب ذلك الخيال من إمكانية التحرر من كل قيد والتحليق في أي سماء.