فادي عاكوم يكتب: التميمي يستحضر أرواح القاهرة

كل من دعي إلى الندوة التي أقامها الإعلامي والصحفي محمود التميمي بعنوان “أرواح في المدينة” ظن أنها ستكون ندوة أخرى من الندوات التي تزخر بها العاصمة المصرية للكلام عن تاريخ القاهرة والرجال والسيدات الذين بنوا تاريخها الجميل، لكن المفاجاة كانت بأن الندوة خلعت عنها ثوبها التقليدي لترتدي ثوبا خاصا بها يليق بالقاهرة وبتاريخها الجميل عبر عقود طويلة من الزمن، وهذا ليس بغريب على التميمي صاحب الخبرة الطويلة بالصحافة والإعلام، وليس بغريب عن شخص يعمل بصمت متناهي ليفرحك بمنتوجه الجديد.

“التميمي” استعان بأرشيف ضخم من صحف ومجلات صدرت من القاهرة تمتد بالزمن لقرن ولى، اختار منها 196 خبرا وصورة لها دلالة خاصة وقتها لكنها مستمرة الى الان، وهذا العدد الضخم كان كفيلا بان تتخطى الندوة الساعات الثلاث ونيف مع بقاء الجمهور الحاضر حتى اللحظة الاخيرة وهذا امر نادر الحصول حتى في الندوات التي يكون اقصى وقتها ساعة أو أكثر قليلا، وهذا دليل اضافي على الحرارة التي اتسمت بها الندوة، حيث تحولت إلى جلسة لاستحضار الأرواح، وليس أرواح البشر فقط بل أرواح الحجر أيضا، فالقاهرة لن تكون قاهرة بلا ناسها وأيضا لن تكون بلا حجارتها التي وإن تكلمت لنظقت تاريخا كاملا .

نرشح لك: إلى عروس البحيرة وباقي النجوم: لا تضغط “نشر” ..النشر به سم قاتل

واللافت كان مشاركة المبدعة غادة العبسي الكاتبة والمطربة، إذ تولت غناء بعض الأغاني الطربية الأصيلة التي تلامست مع بعض الموضوع بشكل كبير، فأضافت بصوتها الذي صدح بين جدران بيت المعمار المصري بدرب اللبانة حيث عقدت الندوة رونقا خاصا يليق بالموضوع والمكان، رغم التعب البادي عليها إذ أتت الندوة بعيد حفلتها الأولى بمعهد الموسيقى العربية والتي فاجأت الجميع بصوتها وأدائها.

وقبل استعراض القليل مما طرحه التميمي أو البعض من الأرواح التي استعرضها، يجب التركيز على بعض الضيوف الحاضرين من أهل الاختصاص بالتاريخ والأدب والصحافة والآثار والإعلام، والذين شاركوا بمنقاشات خفيفة تعقيبا على الصور والأخبار المعروضة مما أتاح للجميع رزمة متينة من المعلومات الموثقة والمؤكدة من مصادر لا شك حولها.

“التميمي” استعرض وثائقه من خلال شاشة نصبت أمام الجمهور، فتنوعت بين الأدب والتاريخ والسياسة والفن والمجتمع وحتى الموضة لم تغب عن اختياراته، وربما أبرز محطات التميمي كان كشف بعض المعلومات المغلوطة كأول فتاة مصرية تقود طائرة، والهدايا الملكية التي وزعت يوم زفاف الملك فؤاد بالملكة ناريمان والتي كانت عبارة عن علب من الملبس المذهبة وبلغ ثمن الواحدة منها مائة وخمسون جنيها، وكلام حزين عن الفنان حامد مرسي، وتفاصيل رفع الستارة عن تمثال نهضة مصر للفنان البديع محمود مختار، وأول سيدة مصرية تنجح الشرطة بضبطها لتعتبر أول سيدة تتاجر بالمخدرات، والاستخفاف باسم سعاد حسني من قبل أحد الصحافيين في العام 1958، وغيرها الكثير الكثير من الموضوعات التي تناولها العديد من الصحافيين خلال تغطيتهم للندوة.

المهم في الأمر أن التميمي أوجد لنفسه لقبا جديدا ألا وهو الباحث، وهو يستحقه عن جدارة وبامتياز، وربما ما ساعده الحصول على هذا اللقب شغفه وحبه للتراث المصري والبحث عن تفاصيله بالكلمة والحجر معا، وهو ما ينبئ بأن تكون مبادرته أو بمعنى أصح مشروعه “القاهرة عنواني” ذا شان كبير على الساحات الثقافية والتراثية وحتى الصحفية، وأهميتها أنها تأتي في وقت تتعرض مصر والقاهرة تحديدا وبعض العواصم العربية الأخرى لحملة ممنهجة ومنظمة لطمس الهوية الحقيقية وقلب الحقائق واستبعاد شخصيات مؤثرة كان لها الفضل بتنمية الأفكار ومد الجسور للمستقبل.

وإلى “الباحث” التميمي أقول سلمت وسلمت أعمالك وأعتقد أنك تحتاج لمساعدة المهتمين فيكفي أنك تستقصي وتقدم المادة وهو أمر نادر الحدوث فعلا، ومن الممكن من خلال بعض المساعدة الاستقصاء عن أماكن ومباني ومعلومات لمقارنة قديمها بجديدها خاصة بعض المباني في منطقة وسط البلد والتي سيكون شيقا استعراض تاريخها وبعض تفاصيلها من خلال بحثك والكشف عن مصيرها الآن ومدى التحولات والتشوهات التي أصابتها بفعل مرور الزمن والنسيان وعدم تقدير قيمتها الحقيقية، فليست الدولة أو الحكومات المتعاقبة وحدها المسؤولة عن المحافظة عن التراث والتاريخ بل هي مسؤولية مجتمعية جامعة يجب أن يشترك فيها الجميع كونها أغلى الكنوز التي لا يمكن أن تختف، بل ستعود إلى الظهور بأعمال مثل عملك.

وفقك الرب في مشروعك وإلى المزيد من استحضار الأرواح الجميلة.