عمرو منير دهب يكتب: الفصل الخامس عشر من كتاب لوغاريتمات الشهرة

قبل نحو ثمانية أعوام جاء في كتاب “جينات عربية”، أن “محمد العريفي داعية سعودي سلفي عمره 44 عاماً، وأحمد الشقيري إعلامي سعودي عمره 41 سنة، وعائض القرني داعية سعودي سنــِّـي عمره 54 عاماً، وسلمان العودة داعية سعودي سنــِّـي عمره 57 سنة، ومشاري العفاسي قارئ للقرآن الكريم ومنشد ديني كويتي عمره 38 عاماً. هؤلاء هم أصحاب الحسابات الخمسة الأكثر متابعة عربياً على تويتر”.

رغم أن بعض المذكورين أعلاه لا يزال على قائمة أصحاب الحسابات الأكثر من حيث عدد المتابعين على موقع التواصل الاجتماعي الأمريكي الشهير، فإن القائمة شملت أسماء جديدة. وإذا كان مؤشر تويتر ديناميكياً بصورة شديدة الوضوح، فإن تلك الديناميكية لا تفضي بالضرورة إلى تغيرات دراماتيكية في الأسماء الأكثر متابعة أو في طبيعة المحتوى الذي تتم متابعته، بل على العكس قد تظل طبيعة المحتوى المتابَع وكثيراً من أسماء المتربعين على عرش المتابعة دون تغيير جذري لأمد طويل.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الفصل الرابع عشر من كتاب لوغاريتمات الشهرة

ضمّت إذن قائمة الحسابات الأعلى من حيث المتابعة على توتير قبل ثمانية أعوام العديد من أسماء رجال الدين، وللدقة فقد كانوا جميعاً من المهتمين بالدعوة إلى الدين بطريقة أو بأخرى، وذلك بحسب المزاج الديني الذي كان سائداً حينها، والذي ربما اعتراه تغيير بصورة ما في طبيعته وأسماء أبطاله. هذا، ولا يعني ذلك أن العرب منصرفون إلى متابعة رجال الدين بصورة مطلقة على منصات التواصل الاجتماعي، فطبيعة منصات التواصل الاجتماعي الأخرى كإنستغرام ربما تُخرج كل الأسماء السابقة من قائمة الأعلى متابعة لصالح آخرين يقدّمون محتوى مناقضاً بالنظر إلى طبيعة الحياة والمثل العليا النظرية على المستوى العربي، بل ربما تُدخل إلى قوائم المتابعة الأعلى أسماء مؤثّرين لا يمتلكون موهبة باستثناء القدرة على جذب الانتباه على منصات التواصل الاجتماعي، وليس في نيّتي التعريض بهذه الطائفة في هذا السياق من قريب أو بعيد، فذلك الظهور اللافت هو كسب تلك الطائفة الذي استحقته وفقاً لقواعد لعبة الشهرة والتأثير في العالم الإعلامي الجديد، بصرف البصر عمّا أجادل بشأنه باستمرار حول كون ذلك العالم افتراضياً أم لا، خاصة مع مفهوم الشهرة والتأثير الإعلامي الذي يسري مفعولُه أساساً عن بعد بمداعبة خيال وأحلام الجماهير، فالنجوم هم الذي يؤثّرون فينا من بُعد وليسوا أولئك الذين نراهم كل يوم مهما يكن عمق وقيمة ما لديهم من البضاعة المادية والمعنوية على أي صعيد.

بعيداً عن المراجع التي يمكن الاستناد إليها في حساب الشهرة والتأثير، سواءٌ أكانت تلك المراجع وسيلة إعلامية عتيقة أو منصة تفاعلية “افتراضية” بالغة الحداثة، فإن رجال الدين لهم نصيب واضح من الشهرة والتأثير على الصعيد العربي، وهم كذلك على الصعد العالمية بتفاوت تفرضه طبيعة تأثير الدين والعقائد الروحانية في هذا المجتمع وذاك على أطراف الأرض.

هل من ذنب لرجال الدين في أن يُقبِل الناس عليهم ويصطفوهم بالشهرة والتأثّر حبّاً وكرامة أسوة بغيرهم من المشاهير أو حتى بما يفوق المشاهير المؤثرين على الصعد الأخرى في كثير من الأحيان؟ لا يُفترَض أن يكون في ذلك مشكلة، فالناس تُقبِل على من تحب أن تمنحه انتباهها، وليس من الحكمة ولا المنطق أن يصدّ مشهورٌ الناسَ عن متابعته، فمن يزجي بضاعته إلى الناس يتوقّع – بل يتلهّف إلى – أن يُقبل الناس على تلك البضاعة ومن يروّج لها بالقبول والتقدير.

ولكن إعادة طرح السؤال السابق بصيغة مختلفة قد تضع رجال الدين ودعاة المثل العليا في مأزق بدرجة أو بأخرى. مثلاً، هل يحق للدعاة أن يطمحوا إلى الشهرة وبريقها شأنهم في ذلك شأن الفنانين من كل قبيل؟ ألا يبدو حب الظهور والطمع في الشهرة مناقضين للزهد والتجرّد اللذين يليقان بمن يدعو إلى السمو الروحاني حتى إذا لم تكن دعوته تلك طوباوية محضة؟ ألا تبدو الأضواء كما لو أنها أضحت هدفاً مركزياً لكثير من الدعاة في كثير من الأحيان؟

مقابل ذلك، من حق رجل دين واقعي (وليس ذرائعياً بالضرورة) أن يسارع فيؤكد أنه لا غضاضة من أن يطمح إلى الشهرة – بوصفه إنساناً من لحم ومشاعر – إذا لم يكن ذلك على حساب ما يدعو إليه من المثل العليا. ولكن من الواضح أن هذه الفكرة إذا كانت صائبة من الناحية النظرية فإن الإشكاليات التي تواجهها على الصعيد التطبيقي كثيرة، فمعركة الظهور الإعلامي تقذف برجل الدين إلى قلب معترك تحيط به المطامع الشخصية من كل صوب بما يجعل من الصعوبة بمكان عظيم (أم من المستحيل؟) النجاة من ذلك المعترك دون مساس بمثالية الدعاة التي تفترضها الجماهير، بل بما يجعل إصابة تلك المثالية بخدوش – وربما جراح عميقة – في حكم المؤكد.

والحال كتلك، تبدو الأضواء والشهرة حتى مع أرفع المهن والمهام مثالية في الوجود غوايةً لا مفرّ من الخضوع لها بدرجة أو بأخرى. وقد رأينا على العديد من الصعد في أكثر من سياق مضى أنه مع الشهرة لا يبدو ثمة فرق كبير بين سلوك فنانة صاعدة أو مفكر عميق في أي مجال، فسلوك بني آدم يبدو متشابهاً وهم يتسابقون إلى السجادة الحمراء ويتطلعون إلى بريقهم وهو يصعد إلى عنان السماء.