ربيع السعدني يكتب: الحرية للتحرير

مصادرة حلم الطفولة

منذ 10 سنوات مضت وتحديدًا خلال فترة دراستي الجامعية كنت أقف مبهورًا أمام مانشيتات أعدادها ومفتونًا بجرأة موضوعاتها وتناول ملفاتها الذي يلعب دائمًا خارج الصندوق الروتيني الممل، فضلاً عن عمق تحقيقاتها ومقالاتها وهو ما كان يجعلني أحرص كل أربعاء على حجز نسختي من جريدة الدستور الأسبوعية واحرص على “تفلية” مقالات رئيس تحريرها إبراهيم عيسي والساخر بالفراسة بلال فضل صاحب بقالة “قلمين” للسخرية والنشر بريشة رفيق دربه العبقري عمرو سليم، وأستمتع بـ هشام عبية صاحب الأسلوب الرشيق الذي يذكرني بمولانا الإمام الساكن في طنطا الدكتور أحمد خالد توفيق “أطال الله في عمره وسن قلمه”، وعمر طاهر وخفة دمه وإيفيهاته “اللي بتلسع”، ونادية الدكروري وحواراتها العميقة ورضوان آدم وعمرو بدر والجارحي ومني سليم وروعة ما يكتبون كأنهم يغردون وحدهم في عالم خاص بهم على مآذن سماوية لغرس الثورة وبث النور في القلوب بعد إخراج أصحابها من عنق الفقر والجهل والأمية، وكذلك صفحتي ضربة شمس للخالد كساب وكتيبته المجانين بالكتابة والمعجونين بالموهبة حتى أدمنتهم حد العشق وتمنيت لو أكتب معهم، فراسلت ضربة شمس وبالفعل نشرت لي عدة مقالات ساخرة عن الجامعة والتعليم والحكومة الذكية وقت هوجة نظيف والذين معه من أهل التكية ومحاولاته إلصاق كلمة ذكية بكل شيء إلا العقل المصري الذي يبدع وينتج ويصنع ويدير الماكينات الجامدة، كانت تجربة الدستور بمثابة الهرم الصحافي الذي لم يقترب منه أحد أو يهزه جبل حينما يقول “للغولة عينك حمرا” في وجهها دون خوف أو موائمة واستسلام حتى مرت السنون وأنهيت دراستي الجامعية وكنت أتدرب وقتها في إحدى الجرائد المستقلة ويراودني حلم الالتحاق بالدستور من قبل أن ألتحق بالصحافة والإعلام حتى أكتب ما يروق لي وأحقق فيما أريده دون سقف أو محاذير وخطوط حمراء أو صفراء أو سوداء، ولكن تمر الأيام وتتفرق بي السبل وأعمل في أكثر من مكان آخر لم يقف حائلاً بيني وبين نشر ما أحبه وتوصيل أصوات المهمشين في القرى والنجوع إلى المسؤول الجالس فوق كرسي السلطة ولا يسمع عنهم شيئًا إلا إذا وقعت كارثة هنا أو حريق هناك واحتقان طائفي هنالك، هنا يهب الجميع وتسن الأقلام للزود عن أهلها واختراق حياتهم المعدمة والبحث عن الخدمات المفقودة حتى مرت الأعوام ويغتال الحلم.

تأميم الدستور

بصدور قرار بيع الدستور الأصلي المفاجئ إلى رضا إدوارد والسيد البدوي وتحويلها إلى نشرة دعائية للنظام دون خوض معارك صحافية واشتباكات النسخة الأصلية منها، خرج الوليد الجديد مشوهًا ومعاقًا برأس مال مسموم لا يسمن ولا يغني من معلومة تفيد القارئ أو المالك في التوزيع، هنا ضاع حلمي القديم باللحاق بأفراد كتيبتها وأكملت رحلتي مع الكرامة حتى جاء الفرج أخيرًا والبشرى السارة لمن تشتاق أرواحهم إلى المهنية وعقولهم للمصداقية وتهفو قلوبهم إلى الضمير الإنساني قبل السبق والانفراد وكشف الحقيقة، خرج الوليد الشرعي من رحم ثورة الأحرار بنفس الأيقونة التي انطلقت منها شرارة الثورة الأولى في 25 يناير .. التحرير، كان الاسم وحده كفيلاً بالموت في سبيل العمل بها وتحقيق حلم الثورة والشهداء الذين رووا بدمائهم كل شبر من أرض ميادين التحرير.

حاولت ولكن ليس بعد، فالأعداد هائلة في مقر إيران والحماس يسكن الجميع وغالبيتهم شباب في مثل سني وأكبر بقليل، قال لي حينذاك الجميل مصطفى بسيوني اصبر.. وصبرت عامًا كاملاً ولم أنقطع عن المتابعة حتى تم النقل إلى المقر الجديد في شارع سوريا.. حينذاك كنت قد خرجت من تجربة صحافية وليدة بدأت معهم من العدد الزيرو وما قبله من أعداد تجريبية، مازالت بعض تحقيقاتها صالحة للنشر اليوم واستمرارًا لمسلسل تحكم رأس المال في صناعة الصحف وإيقاف العدد الورقي من الوادي.. هنا قررت الرحيل وتقديم استقالتي في صمت بعد أن أغلقت كل الطرق أمام الاستمرار والنجاح وتعلم الجديد في ذلك المكان.

أخيرا ..محرر بالتحرير

على باب التحرير التقيت أستاذي الذي أشهد له بالفضل الكبير لما صرت عليه اليوم المعلم إبراهيم منصور الذي استقبلني بكل حفاوة في مكتبه وطرحت عليه بعض أفكاري وملف جاهز كنت قد انتهيت منه لأني لا أؤمن بالسيفيهات وجو الأرشيف المدرسي البغيض إلى قلبي والأقرب إلى شغل موظف درجة عاشرة في القطاع العام فئة “أفندي”، هذا الذي لا يليق بمن يملك قلمًا وورقة “يعني لا في إيده سيف ولا تحت منه فرس”، حتي اقتنع بي وأمسك بالقلم وكتب لي إيميله الشخصي ورقم تليفونه وطلب مني إرسال الملف له مساء اليوم، وانصرفت ومر يوم والثاني والثالث حتى فوجئت على بريدي الإلكتروني برسالة “ابعت صور ملف الآثار الإسلامية فورًا للأهمية”، وأرسلتها ونشرت في اليوم التالي بالعدد الأسبوعي الذي التحقت به لأكثر من 3 أشهر حتى سلمني بيده إلى مولانا الصالح محمد هشام عبيه، حينها كان ما يزال يلملم قسم التحقيقات الذي يرأسه حتى اليوم ويطور من أبنائه عبر دورات تدريبية وتنموية في التحقيقات الاستقصائية بالتعاون مع مؤسسة أريج بالأردن ودورة ثانية وثالثة حتى تأسس قسم تحقيقات التحرير الذي كنت أحد أبنائه المتفرغين منذ اليوم الأول بفضل عقلية مديره وحسن تقديره.

ومرت الأيام والشهور ولا أكف عن السفر والترحال والبحث عن الحقيقة وتطبيق ما تعلمته نظريًا على الورق ومعايشة المعدمين والمهمشين في جمهورية مصر المنسية للبحث لهم عن سبيل عادل للحياة الكريمة ونشر كل حرف أكتبه كما هو دون تدخل إلا في الضرورة القصوى بما لا يخل بالمعنى ويقتطع من نص السياق التحريري، حتى جاء الريس أنور الهواري ليكتمل الحلم وتتحقق المهنية ونخترق تابوهات اجتماعية وملفات سياسية واقتصادية كانت محرمة فترة من الفترات وممنوع الاقتراب منها أو التصوير كأنها ثكنة عسكرية حتى رفعت أسهم الجريدة في الشارع المصري وصارت علامة في سوق الصحافة ومر عام ونصف على أجمل تجربة مهنية بحق عشتها وفوجئت مثل زملائي بقرار الإغلاق وهنا كانت الصدمة.

صدمة جديدة

قرار إغلاق التحرير هذه المرة نهائي بلا رجعة كما يقول المالك ولكن السؤال: اشمعنى دلوقتي؟ أو بلغة أخرى لماذا الآن؟ كلنا عارفين إن الجورنال كان بيخسر من زمان ليه أول ما الجورنال بدأ يسمّع والكل بدأ يتابعه ويطلبه نزل قرار الغلق من فوق؟ دون خوض في بحر التفاصيل التي يسكنها الشيطان وما إذا كان القرار سياسيًا أم اقتصاديًا بحت كما تقول الإدارة ما يهمنا هنا هو الحلم، ليه يتصادر في قمة مجده؟ ليه يتقتل بالسكتة القلبية وهو بيكبر؟ ليه يتعدم كأبطال كافكا “كاتب تشيكي ألماني يعد رائدًا في الكتابة الكابوسية المفزعة”؟ ليه كل حاجة تمت للتحرير بصلة تتكمم وتتصادر وتتوأد في مهدها وتتحبس في الوقت اللي المطبلاتية والمعرضين شغالين وفاتحين صفحاتهم وقنواتهم المرئية والمشمومة على البحري؟

لسه بنراهن على الصبر سأكتفي بنقل صدر الافتتاحية التي تم نشرها عقب أزمة الدستور الأولى بعد صدورها بدون اسم رئيس التحرير إبراهيم عيسي.. ولكن مع تغيير الاسم فقط، وجاء فيها “ﻋﺰﻳﺰﻱ ﺍﻟﻘﺎﺭﺉ، ﺍلتحرير ملك لك ﻭﺣﺪﻙ ﻭﻻ‌ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺆﺛﺮ ﺃي ﺗﻐﻴﻴﺮ ﻓﻴﻪ أو إغلاق على ﺳﻴﺎﺳاتها ﺃﺑﺪًﺍ، ﻭﺳﻴﻈﻞ منبرًا للحرية والباحثين عن العدل ﻭﺳﻨضرب معكم أوكار الفساد بيد من حديد، لو كتب لنا ربنا النشر من جديد”.

مش ح نقول فين حق الصحافيين اللي ضاع بجرة قلم ولا مصادرة حلم حياتهم في كتابة ما يؤمنون به بقرار ممهور بتوقيع صاحب الدكان.. ولا شقى عمرهم اللي راح وقصف أقلامهم وتعلقهم بالمكان وحياتهم فيه أكتر من وجودهم في بيوتهم.. ولا فرحة أمي لما عرفت إني هاسيب الصحافة واشتغل في مصنع من المصانع اللي كنت بحقق فيها علشان هاكون قريب منها وأروح وأجي عليها مش في غربة وكمان مرار طافح وتشريد وتسريح للصحافيين اللي ياما أقلامهم اتبرت في هذا المكان من مقر لآخر دفاعًا عن حق وطلبًا للحقيقة وسعيًا لأن ينفع الله بهم ويدفعون باطلاً أو ظلمًا وقع على أحد المواطنين.

باختصار المهنة دي بتجري في دمنا ومحدش هيقدر يوقف شرايين التحرير وكرات الحرية البيضاء والحمراء جوانا لأننا من غيرها ح نموت، علشان كده لسه بنراهن على الصبر وإن أغلقوا التحرير كما أمموا ثورتنا وطمسوا ملامح الميدان الذي يشهد على كل شعار رددناه وكل كلمة رفعناها وكل نقطة دم روت أرضيته لأب وأم وأخ وأخت وصديق تسكن أرواحهم هنا رغم إغلاقه في وجوه المتظاهرين المطالبين بالحرية والتحرير وفتحه سداح مداح أمام كل الطبالين والزمارين ومطربي الحي، حتى صدرت حرياتنا وصار الوطن مجرد سجن كبير لكل من يطلب الحرية له ولأبنائه من بين أنياب خفافيش الظلام وسماسرة الأوطان .

نقطة
ومن أول السطر
مكملين

اقـرأ أيضـاً:

ربيع السعدني يكتب: قل حكومة الصفر ولا تقل طالبة الصفر

ربيع السعدني يكتب: احنا في زمن محفوظ عجب الأخرس   

ربيع السعدني: مات أبانا الذي يسكن قلبي  

ربيع السعدني: 1980 و أنت طالع.. ضحك كالبكا

.

تابعونا علي تويتر من هنا

تابعونا علي الفيس بوك من هنا