مذكرات محمود سعد المرئية.. لمن يجرؤ فقط

مصطفى شحاتة

أقول دائما، إنه إذا لم يكن الكاتب -خلال عصرنا الحالي- على قدر جرأة الكاتب الكبير جلال أمين في مذكراته “ماذا علمتني الحياة؟” فعليه ألا يكتب سيرته الذاتية. وقبل كتاب جلال أمين وبعده قرأت عددا لا بأس به من السير الذاتية، لم تكن هناك شجاعة من الكاتب أن يحكي فعلا، لذا خرجت الكتب مبتورة وغير واضحة المعالم، خصوصا أن بعض هذه السير يكون همه الأكبر إخفاء الحقائق واللف والدوران حول الوقائع.

مؤخرا وجدت هذا الكاتب الذي يحكي مذكراته فعلا بصراحة ودون تزييف، وبلا خوف من أسوأ ما في البشر وهو الحكم على الآخرين، لكن هذه المرة لم يكن الوسيط “كتابا” بل “فيديو”. وهنا أعني بذلك الفيديوهات التي يتحدث فيها الصحفي والمذيع محمود سعد، الرجل صاحب السنوات الطويلة من العمل الصحفي في الجرائد والمجلات الورقية، ثم صاحب أحد التجارب الإعلامية المهمة خلال العقدين الآخيرين، وهو من قلة قليلة تستحق لقب إعلامي عن طيب خاطر، رغم أنه لفظ بات يوزع على كل من لا يمت للمهنة بصلة.

نرشح لك:3 ترندات في 24 ساعة.. نقلع الحجاب ولا نلبسه؟

أعتقد أن هذه هي التجربة الأولى التي نشاهد فيها مذكرات متوسعة وشجاعة إلى هذا الحد بطلتها شخصية معروفة، ولا تُقرأ بين دفتي كتاب، وأعتقد أيضا أنها مناسبة أكثر لحالة محمود سعد، الصحفي الذي عرفه جيلي بشكل أكبر من خلال التلفزيون والفضائيات أولا، لا الصحافة الورقية، وبالتالى لم يكن غريبا أن يتلقى الجمهور منه “مذكراته”-وأنا أُصر هنا على الاسم- من خلال الفيديوهات لا الكلمات المكتوبة، وقد حققت رواجا بالتأكيد، طبقا لأرقام المشاهدات المتصاعدة على موقع يوتيوب وصفحته الرسمية بموقع فيسبوك.

بالطبع أصاب القائمين على نشر الفيديوهات ومونتاجها ما يصيب الجميع حاليا من عناوين “حراقة” لكي تجذب كثير من المشاهدين، رغم أن سعد لا يعير كثرة المشاهدات اهتماما، أكثر من اهتمامه بالتأثير الحقيقي، لكن العناوين تبعد في أحيان قليلة جدا عن الهدف من الحلقة ويمكن أن توصف بالخادعة، لكن يغفر المشاهد لهذا المذيع “الصديق” كل شئ.

قد يقول البعض إن ارتفاع مشاهدات الحلقات هنا قادم من فكرة حب التلصص على حياة الآخرين، فيما التلصص يحرك حياة الفارغين فقط، سواء من يتلصص أو من يعتقد أن الآخرين يتركون حالهم لكي يتلصصوا عليه، وهنا الشخصية شهيرة وحياتها مليئة بالتفاصيل قطعا، لكن الأمر ـ بحسب ما أرى ـ ليس تلصصا على حياة شخص آخر، فهذه ليست غرفة نوم سيدة تسوي الكفتة- لها الحق تماما في ذلك، خبرة محمود سعد تبعد الموضوع تماما عن هذه النقطة، وأظن أنه يعي جيدا ما يقدم، فهو يقدم الحكاية من أجل خلاصة حكمتها، وإذا ما حاولت أن تحكي أنت ما حكاه سعد على الآخرين ستجد صعوبة في ذلك. وأفضل ما في حكايات سعد أنه -ربما لعامل السن وطبيعة الشخصية الودودة الحكاءة ـ تخلص من أسوأ الصفات الإنسانية وهي الحكم على الآخرين، وبالتالي ستأخذ منه الحكاية ببساطة أكثرربما من تلقي نفس الفكرة من شخص آخر، فالرجل يحكي بلا حسابات، وبانفتاح ومن موقع “اللي مش فارق معاه”، لكنه يحافظ جيدا على الشعرة التي تفصل بين الصراحة والبساطة وعدم التلفيق أو الافتعال، وبين مراعاة حرمة الحياة الخاصة لأبطال حواديته المستأمن على سيرتهم.

مذكرات محمود سعد المرئية تجربة ذكية وربما رائدة في وسطنا الإعلامي فالرجل يكتب مذكراته على الهواء وبلا خطة محكمة واضحة، والمفاجأة أنها تخرج نقية ومتدفقة ومحكمة أكثر من تجارب أخرى مرتبة وتم التحضير لها بدقة، ومن النقاط المهمة التي تميزها كذلك حديثه وسط كل الحلقات دائما عن العلاقات الشخصية وكيفية إدارتها، وهي بحسب اعتقادي أمر يؤرق الجميع، حتى إنك تشعر أن البشر بلا استثناء كان أمامهم أن يريحوا بعضهم البعض لكنهم اختاروا ممارسة كل أنواع الضغوط على الآخر، سعد يقدم خلاصته وحكمته في جوانب كثيرة، قد تتوافق معك، أو لا، لكنها رؤية جيدة للتعامل مع الآخرين.

محمود سعد بعمره الذي يقترب من السبعين، ليس شخصا عاديا، ومذكراته تشمل أيضا ـ بخلاف العائلة والأصدقاء ـ قصصا عن العمل في الصحافة والتلفزيون، وهي حكايات غير معروفة إلا في نطاق ضيق جدا، فحتى في أوقات رواج العمل الإعلامي والصحفي في مصر، فالعاملين به أقل كثيرا من الصخب الذي يحيط بهم، كما أن مطبخ الصحف والقنوات دائما يعرف ما يدور فيه عدد محدود للغاية من الأشخاص-بعيدا عن السنوات الأخيرة صراحة لأنها فكت على الآخر-، وبالتالي ما يحكيه محمود سعد مهم لقطاع من شباب الصحفيين أو دارسي الإعلام، هؤلاء الذين لم يتعلموا ولا يعرفوا قيمة للمصادر، بينما ما يكشفه الرجل عن مشواره المهني يؤكد أن علاقاته بالمصادر الصحفية على اختلافها، كانت خير داعم له في رحلته التي تشكلت معالمها بمناصب ومهام متعددة قد يكون أبرزها تقديم برامج تلفزيونية ومحاورة نجوم الحياة السياسية والفنية، لكنها بالتأكيد أعمق وأغزر من ذلك بكثير.

“الحياة لمن يجرؤ” يقول محمود سعد، وقد كان جريئا بالفعل حين قدم مذكراته بهذا الشكل.