فقدنا محمود ياسين.. فقدنا الفنان الإنسان

رباب طلعت

بعكس ما قالته الأغنية الشهيرة في ختام “أفواه وأرانب” فإنه “توتة توتة توتة.. وخلاص خصلت الحدوتة”، حدوتة محمود ياسين، فتى الشاشة الأولى، وفتى أحلام أجيال مختلفة، ليس لشهرته ولا وسامته ونبرة صوته المميزة وحسب بل أيضًا لشخصيته، حيث إنه خلق مفهومًا مختلفًا للجاذبية، للرجل الشرقي في السينما والتلفزيون.

برحيل الفنان الكبير محمود ياسين، عمت حالة كبيرة من الحزن على مواليد الثمانينات وما قبلها، وتمتد إلى مواليد منتصف التسعينات، تلك الحالة التي لا يفهمها الكثير من الأجيال الأصغر عمرًا نظرًا لقلة ظهوره خلال السنوات الماضية خاصة في الأعمال الفنية، تلك الحالة نفسها أيضًا تجعلنا نحن الجمهور الذي شهد سطوع نجمه في التلفزيون والسينما أن نفسر لهم “ليه بنحب محمود ياسين؟

نرشح لك: أحمد عدلي يكتب: انصافا لـ عمرو محمود ياسين

 

أحبك كما أنت كما كنت كما ستكونين في يوم من الأيام.. أحبك حقًا أحبك فعلًا أحبك بكل ما قصتحمله الكلمة من معنى.. أحبك لأنك أحبك لأني.. أسباب الحب لم يكتشفها بعد إنسان.. أحبك فلا تتبدلي لا تتجملي فأنت جميلة كما أنت الآن.. أحبك كما أنت كما كنت كما ستكونين في يوم من الأيام. محمود ياسين لـ شهيرة برنامج “أنا واللي بحبه.. مع غادة عادل”.

نجلاء فتحي، سعاد حسني، فاتن حمامة، والكثيرات غيرهن من ألمع نجمات جيلهن وقعن في حب الجان محمود ياسين، وكذلك نحن دون أي مجهود منه، وقعنا في أسر شخصيته الخليط ما بين الرومانسية والواقعية، الطيبة والقوة، الثقافة والتقليدية، ليس على الشاشة فقط، بل أيضًا في الحقيقة، فقصة حبه لزوجته الفنانة شهيرة التي تخطت الخمسين عامًا، دون أن تذبل أو يشوبها ما يشوب غيرها من شائعات وخلافات تسجلها أقلام الصحافة وكاميرات الإعلام، وامتدت لتتفرع لأسرتي ولديه عمرو وزوجته آيات أباظة، ورانيا وزوجها محمد رياض، وأبنائهما، نتاج شجرة محمود ياسين.

“لازم يكون في لغة وحوار يومي بين الأسرة.. عندما يتواجد ذلك نقدر نتحسس مشاكل بعض وهمومي لأن إذا انعزلت بمشاكلي وهمومي أجد أن تلك العزلة هي أخطر ما يهدد البيت”.

قصص الحب الكثيرة التي غالبا ما تنتهي بخلافات على أرض الواقع، بنهاية ليست حالمة كالأفلام، سطر لها محمود ياسين تعريفا خاصا في “حدوته” مع شهيرة التي وقع في حبها في لقائهما الأول، وقرر الزواج منها لتكوين أسرة تشبه تلك التي خرج منها في مدينة بورسعيد في استقرارها ومحبتها، يحميها الحوار والتفاهم من خطر الانشقاق والمشاكل بينه وبين زوجته وبالتالي أبنائه.

“يوم الجمعة ده مسألة مقدسة تمامًا.. لازم أكون معاهم ومع مامتهم وأنا كمان بحتاجه.. لا بد أكون وياهم نصيحتي توجيهي أتابعهم في المدرسة ومذاكرتهم وطريقتهم السلوكية.. لما بسافر فترة بحس إن حصل شيء كان لازم أكون موجود.. مهما انشغلت ينبغي يكون لهم يومهم.. الصبح لازم أكون معاهم مهما كنت سهران.. وبعملهم أجازة سنوية”. برنامج “فلاش” مع طارق حبيب

وضع ياسين أيضًا، ولديه نصب عينيه، فلم تأخذه شهرته وانشغاله منهما أبدًا، وكان لعلاقته بهما دستورًا مبنيًا على الاهتمام وتخصيص وقت لهما لتعديل سلوكهما والتأكد من نجاحهما، وليس ذلك ما صرح به في طفولتهما بحسب، بل وأكدته ابنته بعد وفاته حيث قالت في مداخلة هاتفية مع الإعلامي شريف عامر إنه كان بالرغم من انشغاله الكبير في فترة شبابه وتصدره لشاشات السينما وقتها وتصويره لفترات طويلة، لم يهمل أسرته وأبناءه بل دائمًا ما كان يخلص في أبوته معهم، ويعتني بهم وبدراستهم ويشجعهم على النجاح، ولهذا عندما نعته وضعت صورة له وهو يطعمها لترد ذلك الفضل له.

أبناء محمود ياسين كغيرهم من أبناء الفنانين خاضوا تجربة التمثيل إلا أنهم ساروا على خطى والدهم، حيث احتفظوا بقدسية الأسرة، وكذلك بقدرهم الفني، فكما صرح الفنان محمد رياض زوج ابنته الفنانة رانيا أنه وزوجته لا يستطيعان الطلب من منتج بأن يعطيهما دور لأن ذلك يجعل الفنان مكسورًا معلقًا: “الفنان يُطلب ولا يَطلب”، تلك المقولة أقرب إلى شخصية حماه الذي يعتبره مثلًا أعلى له، فلم يستغل أحد منهم شهرة والديه للحصول على بطولات، بل سلك كل منهم طريقه منفردًا بأسلوبه، حتى وصل عمرو محمود ياسين إلى شغفه الحقيقي وهو الكتابة والتأليف، والتي نجح فيها نجاحًا كبيرًا خلال السنوات الماضية بسلسلة “نصيبي وقسمتك”، ثم “ونحب تاني ليه”، ويمتد سلسال نجاح أسرة “ياسين” إلى محمود ياسين “جونيور” أحدث وجوه الأسرة الذي لفت الأنظار له في “نصيبي وقسمتك”، ثم “الفتوة”.

أسرة محمود ياسين لا تقتصر فقط على زوجته وأبنائه، بل أشقائه وأقاربه في بورسعيد، الذي كان حريصًا دائمًا على زيارتها ورؤية من بها، والتي اعتبرها لنهاية عمره “أجمل مدينة في الدنيا” ولم يقبل قط مقارنتها بأي مدينة في العالم، ومحبته الصادقة لهم جعلتهم جميعًا حريصون على حضور جنازته لمواساة أسرته، التي قررت تأجيل دفنه إلى أن يحضر شقيقه من الخارج.

“محمود ياسين هو جبل المقطم فهو فنان كبير جدًا عالي القيمة كقيمة جبل المقطم بالنسبة لمصر لأن ده شيء من تراثنا من قوتنا من إطلالته علينا كجبل المقطم فهو فيه صفات الجبل”. فاروق الفيشاوي

احترام وحب محمود ياسين لم يقتصر فقط على أسرته بل أصدقائه، وذلك يظهر جليًا في مراسم دفنه وجنازته التي عجت بالحضور الثري لفنانين كبار وصغار، وقفوا أمامه على المسرح والتلفزيون والسينما، وكان هو بالنسبة لهم “جبل المقطم” كما وصفه “الفيشاوي” من قبل، و”صديق العمر” كما وصفه الفنان عزت العلايلي في جنازته اليوم، وقد كان هو بدوره وفيًا لأصدقائه وزملائه، حيث كانت تميمته لنجاح أعماله هي اعتبار فريق العمل “أسرته” والتعامل معها بتفاهم وود ومحبة، مما يعود على شكل العمل النهائي من نجاح وتفاهم.

تأثير الراحل لم يقتصر فقط على زملائه من سنه بل وصفه نجوم اليوم مثل أحمد السقا وآسر ياسين ممن عملوا معه من قبل، بأنه “الأستاذ”، “الأب”، “القلب العطوف” والكثير من المسميات التي أطلقوها عليه في نعيهم له، وحرص الكثيرون منهم على التواجد لمواساة أسرته أثناء تشييع جثمانه، ليبق ذلك هو الإرث الذي تركه لأسرته وللفن أيضًا بمساندة أولئك النجوم واحتضانهم في بداية مشوارهم الفني.

 

 

امتد تأثير محمود ياسين وسمعته الطيبة إلى مختلف العاملين في المجال الفني، فكان في تواضع يتحدث مع من يصغرونه سنًا وخبرة بـ”يا أستاذ”، ويلتزم بالمواعيد، يدرس دوره ويتقنه بأبعاده، يتعلم ما هو الفن والتمثيل، ولا يقف أمام الكاميرا ليلقي على الجمهور كلمتين دون مشاعر أو تقمص، بل كان يجسد دور المحب والثوري والجندي وغيرهم متلبسا بهم، فيصدقه جمهوره.

قابلت أستاذ محمود ياسين الله يرحمه مرة واحدة سنة ٢٠٠٤ كنت بسجل معاه VO لإعلان لموبينيل، طلب انه يسجل في أستوديو أستاذ…

Geplaatst door Ahmed Hussein op Donderdag 15 oktober 2020

“ظهر في وقت كان الفتى الأول وجاهة وتسريحة وصوت رخيم وتسبيلة عين فأعطى عنصر الرجولة للشاب العربي والمصري.. صوته وتكوينه وجديته سدت فراغ كبير ينقص العمل الدرامي”. نور الدمرداش

طلة محمود ياسين في السينما أحدثت بالفعل تغييرًا كبيرًا في مفهوم الفتى الأول، حيث لعبت ثقافته، ولغته العربية الفصحى، وصوته المميز الذي ارتبط وجداننا به في المناسبات الرسمية والأعمال الدينية مثلما ارتبطنا به في أدواره المختلفة، التي لم تختلف كثيرًا عن حقيقته كفنان مثقف ذو رسالة، موهوم بالفن ويقدسه، خاصة المسرح بيته الأول الذي أخلص له، حيث شارك في العديد من المسرحيات على المسرح القومي بلا أجر، حيث تنازل عنه لزملائه لدعمهم، ولم يتكبر على الوقوف بديلًا لعزت العلايلي في “أهلا يا بكوات” على سبيل الذكر وليس الحصر أمام حسين فهمي، وقبل بالعديد من الأدوار الصغيرة بصدر رحب وقلب محب.

“حين أنتقي يجب أن أنتقي بمعايير غير ما أكون لسة ببتدي حياتي، فأنا دلوقتي ليا معايير تختلف عن خمس سنين فاتوا عن عشر سنين فاتو وحساباتي اختلفت ويجب أن أنتقي بدقة أكتر، لأني عملت كتير ونوعت كتير فأصبح من العسير أني ألاقي ما يرضيني كفنان وأستمتع بيه وأنا أؤديه وأبقى مطمئن أنه هيعجب المشاهد كمان، فالموقف أصبح شديد الصعوبة وده مش مزعلني”.

أعطى الراحل للفن الكثير، فسلك طريق الانتشار في شبابه، وجرب كافة الأدوار، إلى أن نضج فنيًا وقرر ألا يقبل إلا بأدوار منتقاة تضيف له ولجمهوره، احترامًا لهم، حيث كان يبجل جمهوره ويعاملهم بتواضع يشبه تواضعه على الشاشة وخلف الكواليس، فكثيرًا ما تداول الجمهور حكايات عن الصدف التي جمعتهم به فوجدوه متواضعًا بسيطًا يخبرهم بأنهم “على راسه” لأنهم هم سبب نجاحه وشهرته.

لم يكن محمود ياسين مجرد فنان وسيم، بل كان فنانًا شاملًا، فهو المثقف والوطني والإنسان، هو الفنان القدوة والمؤثر ليس فقط على مستوى مصر بل الوطن العربي كله؛ الذي نعاه فنانون ومشاهدون تأثروا لرحيل واحدًا من “آخر الرجال المحترمين”.