الصحفي ليس حرا.. حتى اسألوا BBC

قبل أيام، أكد تيم ديفي، المدير العام الجديد لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، أنه يجب على الموظفين عدم نشر آرائهم السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي، لأنهم بذلك يخاطرون بالسمعة الحيادية للمؤسسة البريطانية، قائلا: “إذا أردت أن تكون كاتب رأي في مقال أو مدافعا عن حملة حزب ما على وسائل التواصل الاجتماعي فهذا خيار متاح، لكن يجب ألا تكون وقتها تعمل في BBC”.

نرشح لك: في محكمة السوشيال ميديا.. الحكم يسبق المداولة


تصريح صادم للكثيرين، وتحديدا في مصر، لأنه ظهرت على الساحة في السنوات الأخيرة أزمات كثيرة عن الفصل التعسفي لصحفيين بسبب منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، فإذا كانت مؤسسة صحفية عريقة بمكانة BBC تفعل ذلك، فيكف نعترض عليه فيما بيننا؟!

في الواقع إن أردنا اتخاذ نفس المسار فيجب أن تكون التجربة متشابهة بالكامل، لا أن نأخذ ما نريده ونترك ما يتعارض مع مواقفنا. فالمدير الجديد لـ BBC أشار للآراء السياسية ولم يذكر المواقف العامة في الأحداث الرياضية والفنية، أو حتى في تبني مواقف معينة لدعم الزميلات اللاتي تعرضن للتحرش، مثلما حدث في وقائع مشابهة نعلمها جميعا؛ حين قامت جرائد بفصل صحفيين لكونهم تضامنوا مع إحدى الزميلات أو العكس.. فهل المهم هنا ألا تخالف رأي المؤسسة سياسيا؟ أم في كل شيء؟!

لأنه إن كان المقصد سياسيا فقط، فهذا يمكن تقبله سواء كنت ملتزما (كمؤسسة) بالحيادية بالفعل أو حتى منحازا لجهة ما، لكن أن يتم تعميم الموقف في كل شيء، فهذا يؤدي لخلل كبير، لأنك ستجد أنه لا يمكن مهاجمة الفنان الفلاني لأنه تبعنا، أو الإشادة بأداء الفريق العلاني رغم أنه معروف انتماءاتك الكروية حتى لا يقال المؤسسة تدعم الفريق الفلاني.. فهل يصبح الصحفي مرآة للمؤسسة في كل شيء، أم هناك مساحة بديهية معروفة لكل شخص في حياته بعيدا عن جهة عمله؟!

الفكرة العامة في الربط بين ما يكتبه الصحفي على حساباته الشخصية وما يكتبه في الجهة التي ينتمي إليها، جديرة بالملاحظة والدراسة بالفعل، لأنه حتى وإن طالبنا بالفصل بين هذا وذاك، حفاظا على حرية الصحفي خارج نطاق عمله، فكيف نمنع المتابعين من رصد التناقض _إن وجد- بين ما تكتبه في الجريدة وما تكتبه عبر حساباتك؟ سينال من رصيد مصداقيتك بالتأكيد، فضلا عن مصداقيتك أنت أمام نفسك.

بالطبع قد تجد أنك لأغراض “أكل العيش” تمتنع أحيانا عن التعليق على أمور معينة حتى لا يظهر التناقض بين مكان عملك وبين رأيك، بل قد تجبرك المؤسسة على مشاركة بعض المقالات والأخبار بعينها على مواقع التواصل، وهذا أمر معروف للجميع، ولا جديد فيه، لذلك يقوم البعض بإنشاء حسابين على كل منصة تواصل، فيكون أحدهما للعمل والآخر للتعامل الشخصي، ورغم ذلك نجد بعض المؤسسات (حتى غير الصحفية) تصر على أن ترفق حساباتك (الحقيقية) على مواقع التواصل في السيرة الذاتية التي تقدمها للالتحاق بالعمل، ليتم دراسة توجهاتك وانفعالاتك ومدى تقبلك للاختلاف، وهل تتبنى أفكارا متطرفة، أم منفتحا أكثر من اللازم، هل يبدو أنك شخص انطوائي أم مرح ومحب للتعامل مع الآخرين… إلى آخره من التحليلات السلوكية التي تقوم بها بعض الجهات، رغم أنه في الواقع إن راجعنا الحسابات الشخصية للناجحين في المجتمع في المجالات المختلفة، سنجد أغلبهم لا يهتمون بمواقع التواصل أصلا.

لكن ماذا إن كنت ناجحا ومؤثرا ومهتما بالشأن العام في الوقت ذاته، هل تمتنع عن ممارسة حياتك بالشكل الطبيعي والتفاعل مع الآخرين في القضايا المختلفة؟ مقابل أن تتحدث وفقا للسياسة التحريرية للمؤسسة التي تنتمي إليها؟! الأمر برمته يعاني منه الصحفي وحده، سواء في العمل أو خارجه، خاصة إن كان في حاجة للمهنة كمصدر دخل أساسي، وليس من فئة مراهقي الشغف الذي لا يسمن ولا يغني من جوع إن أصبحت رب أسرة وتعول آخرين.

وللإنصاف، حرية التعبير والمهنية -داخل وخارج الصحافة_ أكذوبة كبرى، لم تحققها أي جهة بالشكل المطلق، صحيح أنها قد تزيد في مكان عن آخر، لكن لا بد وأن هناك ارتباطات معينة تمنع الحرية الكاملة للمحرر في بعض الأمور، وتجعله يوازن بين هذا وذاك، فيحاول تمرير أفكاره عبر الكتابات والمواقف المختلفة قدر الإمكان، وأن يقلل الصدامات مع جهة العمل بسبب الآراء، مع الوضع في الاعتبار مدى القدرة في الاستغناء عن الوظيفة “ماديا” حال تم فصله لهذا السبب، فلا يقدر الجميع على ذلك لاختلاف ظروف الحياة من شخص لآخر.. ولا لوم عليه، المهم ألا ينجرف لمواقف معينة يخسر بسببها منبرا يصل من خلاله بسهولة لأكبر عدد من القراء، إلا إذا كان الموقف يستحق، أو كنت بلا قيود تمنعك من التخلي عن الوظيفة أو المحاسبة على مواقفك بشكل شخصي، وهذا لن يحدث.. على الأقل هنا!