عن لبنان البلد "الريتش"

فرح بعلبكي

انتقلت إلى مصر العام الماضي، الإسكندرية تحديدا.

عند وصولي مطار القاهرة الدولي وبينما أقف أنتظر حقائبي ساعدني شاب مصري… قال لي “لبنانية؟ طيارة بيروت” ابتسمت… وبدأ يحدثني عن أصدقائه اللبنانيين في إحدى الدول العربية (لا أذكرها الآن) حيث يعمل، وقال لي الشاب اللبناني يحب البذخ والرفاهية واللبس “الشيك”.

نرشح لك: لبنان الذي لا يرتاح


في أول مرة أخرج فيها وحدي في الإسكندرية، بعد أن حفظت الطرق، طلبت سيارة أجرة ورغم كل محاولاتي للتحدث باللهجة المصرية إلا أن المصريين يعرفون غير المصريين بسهولة… عندما قلت له أين وجهتي قال لي “حضرتك مش مصرية وتقريبا لبنانية”، قلت “ماشي” وتابع “الشعب اللبناني جميل تحسي كده ريتش في نفسه، نحن المصريين منحب لبنان جدا”.

بعد يومين من الانفجار وبينما أتحدث إلى أقارب زوجي وقد اتصلوا ليطمئنوا عني وعن عائلتي في لبنان وعبرت لي قريبتنا عن حزنها لما يجري، قالت لي: “أصل لبنان دي بالنسبة لنا زي البنت الدلوعة كده”.

أتابع الأخبار على فيسبوك وأجد بعض النكات من الشباب المصري المنتظر اللبنانيات اللواتي سيهاجرن بعد الانفجار.

أتذكر الممثل سعيد صالح في مسرحية مدرسة المشاغبين وهو يقول “في بيروت المقررات سهلة تقول للمقرر تعالى ييجي لوحده”.
هل هذا لبنان؟
تسكن جدتي في الطبقة الثامنة في مدينة صيدا جنوب لبنان. “الفيو” في بلكونتها رائع يطل على البحر وترى المدينة كلها، لكن كم مرة لم نستطع زيارتها بسبب انقطاع الكهرباء وانقطاع المازوت عن مولد الكهرباء البديل الذي تدفع له شهريا أضعاف ما تدفعه لشركة الكهرباء. وكم مرة أرادت أن تزورنا ولم تستطع!
بعد التخرج، تواصلت مع صديقاتي على الفيسبوك ووجدت أن أكثر من نصف زملائي في المدرسة والجامعة يعيشون في بلدان الاغتراب كالآف من اللبنانيين الذين هاجروا منذ الحرب الأهلية ليجدوا الأمن والأمان والاستقرار. لم يبق أحد. ولن يبق أحد.

بينما كنت في أحد مولات بيروت، أسمع الصبايا البائعات في إحدى المحال: “باقي معي 200$ لآخر الشهر بدي إدفع قسط الجامعة وبعدين ما بعرف كيف بدي كفي الشهر”. وحين انتبهت أني سمعتها، قالت لي إنها خريجة إحدى الجامعات العريقة من كلية مهمة ولكن لم تجد فرصة عمل في مجالها “كله بالواسطة”، وكل فرص العمل في الخارج ولا تستطيع السفر وترك أهلها.

“عمو” أحد أصدقاء أبي المقربين له، حصلت له وعكة صحية أليمة، لم يجد أولاده بالقرب منه فكلهم مغتربون، ودفع أضعافا مضاعفة في المستشفى لأنه ليس لديه تأمين صحي أو ضمان شيخوخة.

أسمع جدتي وعيناها مدمعتان كيف قبلت أن تتزوج خالتي وتسافر إلى أمريكا وتبتعد عنها، مع أنها هاجرت منذ أكثر من 30 سنة، وتلعن البلد والحكام الذين شردوا العائلات.

أذكر تماما عندما اتصلت خالتي الخامسة فجرا بأبي وهي تصرخ وتبكي تريد أي سيارة تأخذها إلى القرية، أولادها باتوا ليلتهم عند جدتهم وحصل إنزال لجنود إسرائيليين واشتباكات ولا تستطيع الاتصال بهم.

قلق خالتي ليس القلق الوحيد الذي تعيشه أي أم لبنانية، قلق لا ينتهي… كل واحدة منهن تتصل بابنها أو ابنتها أكثر من مرة لتطمئن هل وصل إلى عمله؟ هل خرج من عمله؟ هل وصل إلى البيت؟ اتصالات كل نصف ساعة… كل واحدة منهن عليها أن تطمئن أن ابنها لن يموت في انفجار أو في رصاصة طائشة.
هذا هو الشعب الريتش، الدلوع، الشيك، السهل…

هذا الشعب الذي حضر وشهد وخاض حروبا متقطعة لا تعد ولا تحصى. هذا الشعب الذي وجد حلا لانقطاع الكهرباء، لانقطاع المازوت والبنزين، لشح المواد الغذائية، للأدوية الفاسدة، للأغذية الفاسدة…

لا يمكنني أن أنكر أننا لا نحب الموضة والسهر والضحك والحياة والترتيب والأناقة والمانكير والباديكير والفساتين والأغاني والنكات والضحك.. خلف كل هذا، هناك في الأعماق شعب شبع المعاناة والآلام، شعب ارتوى من الدماء وحرقة القلب… “شعب ريتش” بالحزن واليأس والإكتئاب

هذا هو الشعب “الريتش”…

تصوير: نبيل إسماعيل