إثيوبيا.. تاريخ من الاعتداءات على الحقوق المائية لدول الجوار

انتهزت الأوضاع لحجب المياه عن جيرانها والتزمت بمفاوضات تحقق النفع بينها وبين مصر أثناء الاحتلال البريطاني

لم يكن سد النهضة هو المشروع الإثيوبي الأول على النيل الأزرق الذي تفاوضت مصر بشأنه مع الدولة الإثيوبية، فقد كانت إثيوبيا من أوائل الدول التي التزمت بمصالح السودان ومصر في مياه النيل سواء مع الحكومة البريطانية وقت استعمارها للدولتين أم مع الدولتين بعد الاستقلال، وعندما قررت إثيوبيا بناء خزان تانا في منتصف العشرينات من القرن العشرين دخلت في مفاوضات استمرت أكثر من عقد من الزمان –التزاما منها بمقررات معاهدة 1902 بينها وبين بريطانيا- وانتهت المسألة باشتراك الدولتين في بناء السد وتحمل نفقاته وتقاسم أرباحه، حيث نالت إثيوبيا نصيبًا من الطاقة، بينما نالت مصر نصيبًا زائدًا من المياه.

نرشح لك: مجلس الأمن القومي عن دعوة أثيوبيا للتفاوض حول سد النهضة: جاءت متأخرة

ولكن الصادم في مسألة سد النهضة هو جملة أمور منها انتهاز فرصة لثورة 25 يناير للشروع في بناء السد، وعدم الإحاطة بشفافية عن وظيفته وحجمه، واستهلاك الوقت قبل الوصول إلي أي اتفاق، والمضي قدمًا في العمل بينما الوعود تتري بعدم الإضرار بمتر واحد من المياه من حصة مصر.

سد النهضة

وسبق أن قامت إثيوبيا بفرض الواقع على كينيا بعدما بدأت تبني سدا أو مجموعة سدود صغيرة على نهر أومو لتؤثر بالتالي على مصالح نصف مليون مزارع ونصف مليون صياد في كينيا، وانشغلت كينيا في منازعات تخص الانتخابات الداخلية تاركة إثيوبيا تصنع بأهلها ما تصنع وهو نفس الوضع الذي تكرر علي نهري جوبا وشبيلي حيث بدأت إثيوبيا في حجز ماء النهرين الذين يصلان إلي العاصمة الصومالية مقديشو بحجة توليد الكهرباء.
وبهذا فقد أضيرت دول جوار إثيوبيا في مصالحها المائية، كما هو الحال في كينيا والصومال، ويبقي بعد ذلك سؤال: هل ما تصنع إثيوبيا في سد النهضة هو أمر فريد أم أن هذه هي  النتيجة الطبيعية لأداء النظام الأثيوبي، ولدور أثيوبيا الإقليمي؟، وينبغي هنا أن نتساءل.. ولماذا تصنع إثيوبيا كل هذا؟

أزمة اثيوبية مصنوعة

شكلت أزمة سد النهضة تحديًا جسيمًا للعلاقات بين مصر وإثيوبيا على نحو يستدعي وقفة للتأمل والتحليل، وذلك أمر لا بد منه نظرًا للاعتماد المصري الكبير علي مياه النيل الواردة بشكل أساسي من الهضبة الحبشية، وبالتالي فهذه العلاقة تدخل في صميم لا نقول الأمن القومي ولكن وجود الدولة المصرية ذاته، ولا شك أن إقبال إثيوبيا علي بناء سد النهضة مثل نوعًا من الانتهازية المحضة والصرفة لأنه ارتبط بزمن تعاني فيه مصر أوضاعًا داخلية مأزومة خلال ثورة 25 يناير 2011 وما بعدها، ومن ثم لم تكن إجراءات بناء السد إلا انتهازية لا تليق بدولة شقيقة.

سد النهضة

على جانب آخر، فإن إثيوبيا مهمة لمصر لأسباب أخرى قد تكون أساسية مثل وجود الاتحاد الإفريقي في عاصمتها أديس أبابا، ومن ثم فإن مجمل دور مصر الأفريقي يمر عبر هذه العاصمة وبالتالي فإن أية أزمة معها يمكن أن توتر أجواء العلاقات المصرية الأفريقية.

والواقع أن أزمة سد النهضة ليست هي البداية للموقف الإثيوبي بل هي قمة الجبل الجليدي في هذه الأزمة، فقد دأبت إثيوبيا منذ سنوات طوال على اتخاذ مواقف مغايرة للموقف المصري، وحتى عندما توافقت مع هذا الموقف فإنها سرعان ما ارتدت إلي عكسه.

وفي عام 1993 وقعت مصر عقد أول اتفاق مع إثيوبيا فيما يخص مياه النيل في ظروف الاستقلال الوطني في الدولتين، وذلك على عكس ما جرى الاتفاق عليه فيما يخص معاهدة 1902 التي مثلت فيها بريطانيا كلا من السودان ومصر المستعمرين في هذا الوقت، بينما كانت إثيوبيا تتمتع باستقلال كامل في عهد ملكها منليك الثاني وهو أعظم ملوكها علي الإطلاق، وذلك أيضًا علي عكس ما جري من اتفاق بشأن تنفيذ إثيوبيا خزان تانا علي البحيرة التي يخرج منها النيل الأزرق والذي كان نموذجًا يمكن الاحتذاء به في إدارة العلاقة فيما يخص سد النهضة، حيث جرى التفاوض لوقت طويل نسبيًا منذ العشرينات حتى منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، ثم كان الاتفاق دليلًا على استجابة الدولتين كل لمصالح الطرف الآخر، فبني سد تانا وفقًا لما طلبته مصر هندسيًا وربح الطرفان حيث نالت إثيوبيا ما تحتاج إليه في هذا الوقت من طاقة كهربية، وخزنت مصر بعض المياه التي يمكن أن تحصل عليها في وقت الحاجة، ونظير ذلك ساهمت مصر بجزء من تمويل السد ذهب إلى دراسات الجدوى والتعلية، ولكن مع ذلك كانت مصر لا تزال محتلة بجنود بريطانيين وكانت بريطانيا تضغط علي مصر بمشروع آخر هو مشروع الجزيرة في ذات الوقت الذي كان يجري فيه التفاوض مع إثيوبيا بشكل يطرح حتى لأكثر الناس تحفظًا سؤالًا عن الرابطة بين بريطانيا وإثيوبيا، ومدى تجاوب الدولتين للضغوط علي الدولة المصرية، ولماذا تري إثيوبيا أكثر اتساقا مع القوي الاستعمارية والأجنبية منها مع الأشقاء؟

سد النهضة

وعلى العكس من كل ما سبق فإن اتفاق 1993 قدم التزاما إثيوبيًا مباشرًا للدولة المصرية بنفس النصوص التي وردت في إتفاق 1902 من حيث عدم القيام بإنشاء أية مشروعات أو إشغالات علي النيل الأزرق وفروعه يكون من شأنها التأثير على المياه الداخلة إلى السودان ومصر من ورائه سواء من حيث كميتها أو نوعيتها أو زمن تدفقها، ما يعني أن إثيوبيا تلتزم باحترام الموسم الزراعي المصري وإجراءات مصر في تخزين المياه في سدودها المختلفة لوضع مخططها الزراعي والاقتصادي لنهر النيل باعتباره المصدر الوحيد الذي تأخذه منه حاجتها للزراعة والصناعة ومياه الشرب وحتى لحركة النقل النهري وما يرتبط به من سياحة، ومثل اتفاق 1993 ما اعتبر مرحلة جديدة في العلاقات المصرية الإثيوبية، كان يمكن أن تضع الطرفين المصري والإثيوبي على أعتاب برامج تعاون واسعة النطاق تنهي جميع الحساسيات القائمة وتساعد على بلورة نواة صلبة للتعاون الإقليمي في بقية حوض النيل الأزرق بل وحوض النيل أجمع، لكن إثيوبيا اختارت أن تحول إمكانية التعاون لصدام مع استغلال ثورة يناير وما تبعها للبدء في تنفيذ سد النهضة دون موافقة مصرية ومع مماطلة استمرت حتى اليوم مستنفذة جميع طرق وآليات التفاوض.