مين اللي ميحبش نورا؟

محمد حسن الصيفي نورا

في الماضي القريب

تُشبه الأساطير القديمة، آلهة الإغريق والرومان، مثل آلهة الجمال، اختارت الأقدار لها مصيرًا مشابهًا في دُنيا الأضواء وعالم السينما اللامع، اختارت لها أن تشرق في شمسها بأدوارٍ عديدة مهمة، تتوهج ثم تغادر سريعًا، وكأنها في مهمة رسمية خاطفة، لكنها تظل محفورة في الوجدان بجمالها وبساطتها وكذلك قدرتها على تجسيد تلك الأدوار.

سمحت لها أسطورتها أن يخفت نجمها سريعًا، قبل أن تعود مجددًا للظهور على الشاشات بأفلامها المعروفة، تلك هي دورة حياة “نورا” وعلاقتها بالدراما والسينما، تألق وكسوف، ثم العودة من جديد مع كل إعادة تطل بها علينا، وكأنها وأسطورتها الشخصية ارتضيا على هذا النحو من الخلود والبقاء السرمدي على طريقة الآلهة في الأساطير القديمة.

اختارت أن تظل خالدة في أذهان المحبين في أوج فترات الشباب والتألق والجمال، قبل أن تغيب غيابًا يبعث على الحنين والعودة لخطف لقطة أو مشهد من مشاهد الوجه الملائكي الجميل.

ولا ندري ما السر في هذا الخلود؛ فكما أن للفراعنة سر للبقاء، لنورا سر في خلودها الفني على الشاشة، هل كان تمسكها برفض “احتساء” شاي “مدحت” رغم كونه “غاوي مشاكل”.

أم لأنها جسدت الونس والرقة والجمال والمشاركة حد التطابق في “العار” مع “كمال”؟!.

أم لأنها “ذاقت” المرار مع “عنتر” الذي فشل في حمل سيفه، وعاد فاشلًا يجر أذيال خيبته وفضيحته من روما؟.

أو ربما لكونها رفضت “تذوق” تركيبة “صلاح” في “الكيف” ؟!.

في الحاضر.. معضلة الجمال حاضرة أيضًا

وبعيدًا عن الأسئلة السابقة، أو على الطرف الآخر من المعادلة، نعيش في هذه المرحلة مع الطرح الدائم “هل الجمال كافيًا لصناعة النجومية ؟”، وقتها يحدث الجدل، ونتوقف للإجابة، أو نتوقف حول هذه الفنانة أو تلك، حول الموهبة، حول المقومات الفنيّة، حول العديد من الأشياء، غالبًا دون جدوى، ودون أن نخرج بنتائج واضحة تتكفل بالإجابة على السؤال.

بينما تطل هنا نورا ليست كسيدة جميلة وبطلة سينمائية فقط، ولكن كنموذج قدم الإجابة عبر مسيرة فنيّة متواصلة ومستمرة من التجسيد المبدع؛ الذي يكتفي منفردًا بالرد على السؤال المؤرق.

فالممثلة علوية مصطفى محمد قدري الشهيرة بـ “نورا” المولودة بالقاهرة 1956، الحاصلة على بكالوريوس التجارة … قامت “بحساب” المسألة بشكل واضح، وتفكير يغلب عليه الوعي، بموهبة إدارتها بالورقة والقلم، الجمال فيها كان عنصرًا وجزءًا من كُل عرفت جيدًا كيف توجهه نحو مسيرة حافلة بالإبداع.

في زمن نورا لم يكن هناك “إنستجرام” بفلاتر متعددة وبملايين المتابعين، ولم يكن هناك مواقع تواصل تحيل الجمال إلى نقمة أو إلى جحيم، أو تنسى كل شيء أمامه ولأجله تهيم، لم يكن هناك “جلسات تصوير” كما المتعارف عليه الآن، ولم يكن هناك عمليات تجميل فجة تحيل هذه إلى مسخ من تلك، ولم يكن فيه متاحًا أن تجلس الفنانة لتختار الوجه الذي تريده بعد العمليّة وكأنه قناع الأطفال الذي يضعوه على وجوههم في الحفلات بغرض التنكر.

كان الجمال فيه طبيعيًا دون تدخلات بشرية، كان مفيدًا في نحت تفاصيل الدور وإيصال الفكرة على أفضل ما يكون، في زمن اتجهت فيه السينما إلى ما يعرف بـ “الواقعية”، السينما التي تفضح عمليات بيع السلاح وعصابات وأباطرة المخدرات وعمليات الإرهاب، وهي الأدوار التي أبرزت موهبة نورا بشكل رائع، في أفلام مثل “الكيف” “العار” “الهاربان” “غاوي مشاكل” “جري الوحوش” “امرأة ضلت الطريق” … وغيرها الكثير والكثير من الأفلام.

ولو كان اعتمادها على الجمال فقط؛ لما عاشت “روقة” حتى الآن على مواقع التواصل كفتاة يتمناها الجميع، فالسينما مُدججة بالجميلات في كل العصور، لكن تبقى شخصية روقة التي أدتها ببراعة أمام نور الشريف في “العار” محل اهتمام وتفكير وإعجاب لافت، أنت هنا أمام ممثلة قديرة وجديرة بالاحترام، تُمثل بالعين وبالنظرة قبل أن تنطق أو تتحرك أمام الكاميرا، هنا تلاشت فكرة الجمال تمامًا وتضاءلت أمام فكرة الموهبة والذكاء الفطري والحسابات الدقيقة للأدوار التي قدمتها عبر مسيرتها.

في السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات قدمت السينما أفكارًا ملاصقة للواقع؛ تحاكيه وتخاطب مشكلاته، كانت الحياة وقتها تقدمت للأمام، وظهر أجيال من الفنانين يجيدون الاشتباك مع الواقع أكثر وأكثر، وهو الأمر الذي قلب الطاولة على فكرة البطلة الرومانسية الجميلة المبتسمة في القصر أو الهائمة على وجهها في “التراس” كما كانت الصورة في أفلام الأربعينات والخمسينات….واتجه نحو بطلة تمتلك مقومات مختلفة، بأداء وأفكار “مخربشة” وجريئة تشتبك مع الطرح الجديد.

يبقى الأمر اللافت أن نورا اعتزلت قبل نحو اثنين وعشرين عامًا بعد أن قامت بارتداء الحجاب وابتعدت تمامًا عن الأضواء، وبعيدًا عن أمر الحجاب، لكن يبقى السؤال هل تشبعت نورا من السينما والدراما في مسيرتها القصيرة نسبيًا عن الآخرين؟!.

ربما لا، وفي الأغلب نعم، في مسيرة امتدت لما يقارب لربع قرن قدمت فيها عشرات الأدوار المختلفة، بنت البلد والفلاحة والارستقراطية والفقيرة الانتهازية، الطيبة أحيانًا، والشريرة الذكية في أحيان أخرى… مسيرة مكثفة، ربما كانت متواصلة وعنيفة وبلا هوادة، الأمر يشبه بعض لاعبي كرة القدم، أو حتى الكُتاب والأدباء الذين يقفون في لحظة ليقولون؛ الآن أتوقف، لم يعد لدي المزيد لأقدمه، قدمت كل ما يمكن أن أقدمه وحصلت على كل التقدير الممكن والآن تبدأ مرحلة جديدة، وهو ما فعلته نورا، ربما ذكاءًا يُضاف إليها، واعتزالًا مبكرًا قبل أي صراعات مجهدة وغير ممكنة، اعتزال وقت القوة ومن الباب الواسع، يسمح لها أن تُشكل أسطورتها الخاصة على الشاشة ومع الجمهور مع كل مرة تطل فيه من خلال عمل من أعمالها الجميلة.

نرشح لك: محمد رفعت.. الصوت الذي تُفتح له أبواب السماء

شاهد: لمحات من حياة الفنان الراحل ممدوح عبد العليم في ذكرى ميلاده..

نورا