جنة الإعلام: رحلتي مع فضائيات مصر.. في محبة حازم دياب

سامح فايز

تأنقت المذيعة، بدأت في ضبط صورتها أمام الشاشة قبل البث بدقائق، فجأة، ودون مقدمات، سألتني: من أنت؟!

كنت ضيفاً على قناة فضائية مصرية شهيرة، في أحد برامجها الصباحية، من المفترض أن استضافتي سببها الحديث عن كتابي “جنة الإخوان”، ورحلتي مع الجماعات الدينية المتطرفة، غير أن المذيعة التي لم تنتبه لجلوسي في الاستوديو فور دخولها، تنبهت لي فجأة لتسألني: “هو احنا هنتكلم عن إيه النهاردة؟”

مسألة مربكة، المفترض أن معد البرنامج طلب مشاركتي للحديث عن تجربتي مع الجماعات الدينية المتطرفة، بالتالي فأقل القليل يستوجب أن تعرف المذيعة اسم ضيفها. غير أنها سألتني بكل هدوء: “فاضل دقايق والحلقة تبدأ، ممكن تديني نبذة سريعة عن كتابك؟”

قبل ذلك اللقاء تعددت مقابلاتي الفضائية مع قنوات مصرية مختلفة، اشتركت جميعها في شيء واحد، أن المذيع بفريق الإعداد لا يعرف عني سوى أربعة كلمات: “عضو سابق في جماعة الإخوان”. بالتالي فتلك الكلمات كفيلة باستضافتي، وسؤالي، ومنحي الفرصة لمحادثة ملايين المشاهدين في مصر، والمنطقة العربية، والعالم، وتعريفهم بذلك الجالس وقصته، ولم يتكفل أي من معدي تلك البرامج عن سؤالي ولو بشكل عابر، عن مؤهلاتي البحثية، والعلمية، أو حتى الحياتية، التي منحتني تلك الفرصة، فقط اكتفوا بملء الحلقة بالكثير من الكلام المنسوب للضيف، بعيداً عن تحليل ذلك الكلام، ووضعه في دائرة الكلام المهم، أو الكلام الفارغ، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.

مذيع آخر، قرر استضافتي، لم ينتبه هو أيضا لذلك الجالس فور دخوله استوديو القناة؛ كان يركز بشكل أكبر مع الموظف المسؤول عن ضبط “ماكياج” المذيع، حتى يظهر بصورة أكثر جمالا من صورته الطبيعية، ثم مع بداية الحلقة قال بكل هدوء: “أعرف أن أمراء الجماعة يحبون أكل اللحمة!” أخذتني رعشة خفيفة ثم رددت عليه قائلاً: “لكن جماعة الإخوان لا تعرف مصطلحاً اسمه أمراء الجماعة، هو مصطلح خاص بأعضاء الجماعة الإسلامية، وهي فرقة مختلفة”، وتعففت عن ذكر مسألة اللحمة، فما علاقة مواجهة الفكر المتطرف بنوع الغذاء الذي يتناوله المتطرف؟!

نرشح لك: سيد محمود يكتب: أحمد فؤاد نجم.. مجاهد عاش حياته بالطول والعرض

مذيع ثالث ظل طيلة الحلقة يطلب مني الحديث عن التنظيم المسلح لجماعة الإخوان، وحكاية النظام الخاص، الذي تأسس قبل مولد والدي بعشرين عاما، فكيف لي بمعرفة تفاصيله الدقيقة، التي من المؤكد عايشها آخرون أكبر مني بعشرات السنين؟، غير أن المذيع استغل فاصلا إعلانيا وبدأ في تحميسي بطريقة مسرحية، مطالباً مني الحديث عن القوة العسكرية للتنظيم، من أجل كشف حقيقة تطرفهم للناس، فأخبرته أنني حضرت اليوم للحديث عن تربية الأطفال داخل تلك التنظيمات، واحتياجنا لمؤسسة مصرية رسمية أو خاصة لتقضي على ذلك الفراغ المقابل، وتصبح بديلاً تربوياً لأطفالنا في الأماكن الشعبية والريفية، البعيدة عن سيطرة الدولة، والتي تحتاج منا جهداً أكبر، لكنه قال بكل برود: “هو احنا لسه هنستنى لما نربي ونعلم؟”

ورابع بدأ حديثه معي قائلا: “كلمنا بقى، يا ترى الإخوان عملوا فيك إيه؟!” وهو سؤال غريب الطرح، عام الدلالة، فماذا تريد تحديداً من ذلك الجالس بجوارك، وما معنى “عملوا فيك إيه؟!” خرجت من ذلك الاستوديو تحديداً مقرراً عدم العودة إليه مرة أخرى، وفي الطريق إلى المنزل بدأت أتخيل وضع الإعلام في مصر، وكيف يستقبلون يومياً مئات الضيوف مثلي، ليطلبوا منهم حديثا مرسلاً عن كل شيء، وأي شيء، فقط لملء ذلك الفراغ القاتل في برامجهم، بعيدا عن البحث عن أي معنى حقيقي، يمكنه انتشال الوطن من مستنقع الوباء الذي نعيشه!

رجل واحد تصدى لتلك المهنة بمحبة شديدة، هاتفني في المساء للمرة الأولى يطلب الإذن بعمل حلقة معي عن كتابي “رحلة يوسف”؛كانت قد مضت سنوات أرفض فيها الظهور في الفضائيات، اعتراضاً على ذلك الوضع الذي عايشته سابقاً، لكنّ نبرة مختلفة في صوت ذلك المذيع كانت كفيلة بالموافقة.

هاتفني في المساء، وكان من المفترض تسجيل الحلقة في صباح اليوم التالي، فقط يحتاج لبضع ساعات كي يخرج من مدينة الإنتاج الإعلامي للذهاب لأقرب مكتبة ليشتري الكتاب ويقرأه ويعد الحلقة ويكتب “الاسكريبت”. في صباح اليوم التالي أخبرني أنه ظل حتى فجر اليوم يقرأ في الكتاب، وقد أصبح كل شيء على أكمل وجه؛ خرج المذيع لاستقبالي في غرفة الضيوف، حدثني هو أيضا عن إعجابه بفصول الكتاب، وفي أثناء الحلقة سألني عن أدق التفاصيل، التي توحي بعمل أكثر احتراماً من تجاربي السابقة، خرجت من اللقاء منتشياً، وسعيداً بتلك التجربة التي تأخرت سنوات، ودبت بيني وذلك المعد صداقة، كان منشأها ذلك اللقاء فقط، والذي لم يتكرر مرة أخرى لانشغالنا بمتطلبات الحياة، وبالأمس فقط قرأت أن ذلك المعد قد مات مريضاً بالسرطان، رحل قبل أن يكمل عامه الثلاثين، مات بعد أن ظل يكافح طويلا مع ذلك المرض في صمت، والذي لم يعرف أحد بخبره حتى قبل الوفاة بقليل، مات حازم دياب، الكاتب الصحفي، والمعد بقناة cbc، وتركني لأعود لذلك الفراغ القاتل لدي فضائيات مصر مرة أخرى، ولتلك المذيعة الحسناء، التي سألتني قبل بداية اللقاء بدقائق: “من أنت؟”

أحمد فرغلي رضوان يكتب: السينما في 2018.. عام تحولات شباك التذاكر

شاهد: يحدث لأول مرة.. في اليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب