21 تصريحا لـ أمل مصطفى محمود.. أبرزها عن اللحظات الأخيرة في حياته
أمنية الغنام
من النعم التي تقدمها مهنة الصحافة لمن يعملون بها، هي معايشة حياة شخصيات كانت لها إسهامات مؤثرة في التاريخ الإنساني، لكنها وجدت في أزمنة غير زماننا، لم نعاصرها أو ربما عاصرناها ولكن لم تتح لنا الفرصة للقائها وجهاً لوجه. فعندما تطأ قدمك مثلاً “عتبة” منزل الفيلسوف والكاتب والعالم دكتور مصطفى محمود فأنت تفتح نافذة على عالمه الخاص تبدأ معها حالة من التقمص الوجداني ينهمر معها على ذهنك عشرات من الأسئلة.. كيف كان يجلس وهو يكتب أو يقرأ؟ ما سر العود الراكز على سريره؟ يا ترى هل كان يعد حلقات برنامجه العلم والإيمان هنا أم هناك؟ لماذا حرص على أن تزين جدران منزله بأكثر من بورتيريه له؟ وشيئاً فشيئاً تستحضر عباراته الأشهر وطريقة كلامه فتشعر وكأن التاريخ يتجسد أمامك وتكاد تلمسه بيدك..
وفي الذكرى التاسعة لرحيل صاحب البرنامج الأشهر “العلم والإيمان”، زار إعلام دوت أورج منزل دكتور مصطفى محمود الذي أقام فيه حتى وفاته، في 31 أكتوبر 2009، وأجرى حوارا مع ابنته أمل، التي تحدث عن حياة والدها وعاداته وأبرز المحطات التي مر بها وذلك من خلال التصريحات التالية:
2- حرص على قراءة كتب عباس العقاد، ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وفي سنواته الأخيرة كان يقرأ لزغلول النجار، كما كان حريصاً على قراءة مؤلفات الأديب الروسي أنطون تشيكوف.
3- كان في منهجه متابعة المجلات الطبية والبرامج الشبيهة ببرنامجه “العلم والإيمان” فهو دائم الشغف بالبرامج القائمة على المادة العلمية كتلك التي لها صلة مثلاً بجسم الإنسان أو دورة حياة الحيوان والحشرات وخصائص الكائنات الحية والتطور الطبي في هذا الشأن.
4- كان مؤمناً أكثر بالتجربة الأوروبية في مجال التقدم العلمي وكان يعتبرها النموذج الذي يميل إليه أكثر من النموذج الأمريكي الذي اعتبره النموذج ذو الوجهين.
5- بحكم وجودي في منزل أشبه بالمكتبة، لم يوجهنا يوما لقراءة كتب بعينها بالرغم من تحفيزه لنا دائماً على القراءة، فمكتبته زاخرة بالكتب في شتى المجالات الإنسانية والدينية والفلسفية والسياسية والاجتماعية، فأول كتاب قرأته له كان “٥٥ مشكلة حب” فهو بسيط وسهل (ودمه خفيف)، ويعكس مشاكل من الحياة، كذلك كتابه “حوار مع صديقي الملحد”.
6- كان يتمتع بذهن حاضر دائماً والأمور لديه واضحة ومحددة وعندما ينفعل لموقف معين -سياسي مثلا- تجده وقد استطاع أن يكوّن رأيه في وقتها ودون تردد أو دون اللجوء للكتب والقراءات والبحث عن مصادر ؛ فكله موجود في مخزون الذاكرة وتم استيعابه بشكل تام.
نرشح لك: إنعام سالوسة: كيف حوّلت مُر “نعمة” إلى “عسل أسود” ؟!
7- كان يقرأ كتبا كثيرة جداً في التفسيرات ولكتّاب ذو فكر متشدد ولآخرين ذوي فكر وسطي، ثم يخرج من كل ذلك بالجزئية التي من شأنها إفادة الناس وبأسلوب سهل وبسيط ليعرضها ويقدمها لهم.
8- العبارة التي كان يرددها “أن تقاوم ما تحب” لها صلة إلى حد ما بحياته الزوجية، لأن مصطفى محمود كان عاشقاً لحريته وكانت فكرة الزواج بالنسبة له غير واردة ودائماً ما اعتبر الحب نوعا من الضعف حتى إنه تزوج والدتي في سن كبيرة وهو على مشارف الأربعين، فالإنسان بالنسبة له هو مجموعة من الاختيارات وعليه أن يقاوم كل أمر من شأنه أن يعيق اهتماماته ويؤثر بالسلب على وقته وتفرغه للكتابة والتأليف أو السفر حول العالم.
مفهومه لهذه العبارة ينسحب أيضاً على مقاومة جميع متع الدنيا وبالفعل طبق ذلك على نفسه؛ ففي مرحلة ما عندما بدأت تزداد مبيعات كتبه وزاد دخله بدأ التفكير في صرفه شبه كاملاً في أعمال الخير، وانعكس ذلك بالسلب على الأسرة.
9- كان إنساناً بسيطاً وطعامه بسيطا ويعيش بالضروري فقط، لم ينشغل بالغد أبداً وكان يقول “أنا في رحلة فقط آخذ الضروري وما يكفيني لساعتين وراجع”.. كان يقاوم كل ما يربطه بالدنيا ويسعى لكل ما يربطه بالآخرة سواء بالعطاء المادي أو الإنساني بل يستمتع بعمل الخير حتى لو كان مجهداً أو على حساب راحته.
10- كان أصغر إخوته، توفي والده وهو في المرحلة الإعدادية بينما رحلت والدته وهو ما زال طالباً بكلية الطب وكانت الزوجة الثالثة لجدّي، لذلك له من الأخوة الأشقاء اثنين: مختار، والذي هاجر لألمانيا وتزوج هناك من ألمانية ثم توفاه الله، وأخت توفيت في سن صغيرة اسمها اعتماد. وأخوين آخرين – غير أشقاء- يقيمان في طنطا، وأخيرا أخت غير شقيقة اسمها “زكية”، كانت بمثابة الأم له حيث كان فارق العمر بينهما حوالي ١٦ عاما، وكانت تقيم معه بشكل شبه دائم في سنواته الأخيرة.
11- لم يشجعنا والدنا يوماً على دراسة الطب فهو طريق صعب ويحتاج من القدرات والملكات التي ربما لم تتوفر لديّ، فأنا أميل أكثر للنواحي الأدبية، حتى أخي “أدهم” بالرغم من تفوقه دراسياً إلاّ أن الوالد لم يوجهه يوماً لمجال الطب.
12- كان يمنحنا حرية التجربة والاختيار ولم يكن إعطاء النصيحة بشكل مباشر من أسلوب تربيته لنا بل كان هو نفسه يعطينا المثل في التعامل مع الآخر، يدفعنا مثلاً – حتى يزرع بداخلنا قيمة العطاء- لإعطاء الصدقة بأيدينا للمحتاج عوضاً عن صرف المال فيما لا ينفع ويقول لنا “مش كده أحسن وربنا يحبنا أكتر”. أو يلجأ لأسلوب القصة والحكاية ليغرس فينا القيم.
13- كان من أحلامه شراء يخت ليسافر به حول العالم، وبدأ بالفعل في أخذنا كأسرة لرحلات نيلية تمهيداً لعدم إصابتنا بدوار البحر بعد ذلك، لكن الفكرة انتهت تماماً بعد أن رأى في منامه رؤية يقف هو فيها ومن حوله الناس وأمامه جامع كبير، وقد كان، فعندما استيقظ من نومه كان وجهه فرحاً يملؤه النور واتخذ قراره ببناء مسجد “محمود” على اسم والده والذي يعرف الآن بين الناس باسم “جامع مصطفى محمود”.
14- الناصرية كانت مرحلة صعبة على أغلب الصحفيين والكتّاب إلا المنافقين منهم، ووالدي لم يكن وقتها من المقربين بل كان مهدداً بالسجن والقيود مفروضة على كتاباته، أما الفترة التالية مع بدء مصر عصر الانفتاح أثناء حكم السادات فكانت أفضل بالنسبة له حيث الكتابة بحرية أكثر. كان يرى في سنوات بدايات حكم مبارك أنها “معقولة” ولكن غلب على أواخرها طابع الشلالية.
15- من المغالطات التي قيلت عنه ارتباطه بتابوت معين كان يجلس فيه. هذا الكلام غير صحيح؛ كل ما هناك أنه ألّف كتابا فلسفيا بعنوان “الخروج من التابوت” متأثراً برحلته إلى الهند، حيث شاهد بنفسه تجربة المكوث في تابوت مدة الأسبوع دون طعام أو شراب، أو تحت الماء ودون تنفس اعتماداً على بعض التدريبات البوذية، مما جعل والدي يخرج بما معناه إذا ما قرأ الإنسان أشياء معينة فمن الممكن في مرحلة ما أن يتجاوز حتى الخطوط الحمراء الخاصة بفيسيولوجية جسم الإنسان.
16- جميع أعماله ومؤلفاته تم نشرها، ومنزله الملحق بمسجده يحوي مقتنياته من سرير نومه ومنبّه والكاسيت الذي كان يحرص على الاستماع ليلا قبل نومه للقرآن بصوت الشيخ محمد رفعت بالإضافة لكرسي هزّاز أبيض اللون يطلق عليه اسم كرسي التأليف.
17- صلة والدي بالآلات الموسيقية قديمة لأنه كان يعزف على العود والفلوت وهو صغير، وفي أوائل الخمسينات وبداية كتاباته في روزاليوسف تعرّف على الموسيقار محمد عبد الوهاب وحضر معه ولادة العديد من ألحانه وكان حريصاً على اقتناء آلة العود ليعزف ويدندن أغاني معينة لعبد الوهاب.
18- كانت من عاداته أن يقوم بكتابة الهوامش أو وضع خطوط بألوان مختلفة على ما يقرأ، نجده مثلاً يكتب الأدعية في مصحفه، أو أجندة الهاتف وحتى ورق كشاكيل المدارس وكراريس الرسم.
19- كان قليل الكلام جداً في أواخر أيامه حيث تمكّن منه المرض بعد عدة عمليات جراحية؛ كاستئصال جزء كبير من المعدة، وعملية قلب مفتوح وتغيير الشرايين، حتى إنه قال لي “أنا ملكاتي نفسها قلّت زي قدرتي على القراءة وعلى الكلام” وطلب مني عدم دخول أي شخص عليه قائلاً “لا أريد أن يراني أحد فربما أشوف ناس أعرفها ولا أتذكرها” فباعتباره طبيبا كان يعي تماماً مضاعفات مرضه وللأسف غضب الكثيرون لعدم التمكن من زيارته في المستشفى.
20- أذكره وهو على فراش الموت حين قال لي “إن الوقوف بين يدي الله شيء صعب جداً وليس بالهيّن” وهذه كانت المرة الأولى التي أراه يبكي فيها وكأنه عاش تلك اللحظة.
21- لن أنسى يوما آخر يوم زرته فيه في المستشفى وكان قد توقف تقريباً عن الكلام، فكلما حاولت المغادرة يطلب مني البقاء ويرفض ذهابي وأمسك بيدي ووضعها أسفل خدّه فقلت له مداعبةً “يعني يا بابا إنت بتحبني أوي على كده” فكان رده “أيوا بحبك” وينظر لي بحب شديد وقد كانت آخر مرة أراه حياً فيها..
