عماد العادلي يكتب: "الأستاذ أبو بكر" وأول درس في النقد

حياتنا تمتلئ بالبشر، منهم من يمر فيها مرور الكرام ومنهُم من يترك أثرًا لا ينتهي وذكريات لا تُمحىَ، وهذا النوع الأخير من الناس يستطيع دُون أن تشعُر أن يترُك بداخلك شيئا جديدًا لم يكُن موجُودًا من قبل، بل أحيانًا يُغير مسارات الحياة لديك بشكل كامل، وما أكثر هؤلاء في حياتي، منهُم من ترك أثرًا سلبيًا تعلمت من خلاله أن الحياة ليست وردية ولا مثالية بشكل كامل كما كُنت أعتقد، ومنهُم من ترك أثرًا إيجابيًا تعلمت من خلاله أن الحياة مازال بها ورود ومثالية أيضاً.

كان أول وأهم درس لي في العاشرةٍ من عُمري علمني إياه “الأستاذ أبو بكر”، مُدرس الجغرافيا، حيث كان يشرح درسًا عن الوطن العربي، وتحديدًا حدُوده الشرقية حيث يقع العراق العظيم، فأخطأ في معلومة ما حيث قال إن مدينة البصرة تقع على نهر الفرات، وكُنت في ذلك السن -ومازلت- عاشقًا للجُغرافيا وتحديدًا للخرائط، فقد كُنت أطيل النظر مُتأملاً في خرائط الأطلس المدرسي مدة قد تصل أحيانًا لخمس ساعات متواصلة، حتى أنني قررت في هذه السن المُبكرة اختراع خرائطي الخاصة والتي كانت بمثابة عالمي الجديد، واضعًا الحدود الطبيعية لقاراتي ودولي وجُزري وبحاري وأنهاري، وواضعًا الحدود السياسية بين الدول المُخترعة دون أن أظلم إحداها على الأخريات، فكُل الدول ترى البحر أو تطل على مُحيط حيث لا دوُل حبيسة كما هو في الواقع، وكُلها تجري في أراضيها أنهار بشكلٍ عادل.

نرشح لك: 13 تصريحًا لـ عماد العادلي.. أبرزها عن إدارة الندوات وكتابه الجديد

المُهم أنني انبريت للدفاع عن قداسة الخريطة وهببت واقفًا مُصححًا المعلومة للأستاذ الطيب ومُوضحًا أن مدينة البصرة تقع على شط العرب وليس على نهر الفرات كما قال الأستاذ، ومًؤكدًا على صحة معلومتي بالأطلس المدرسي وأشرت له على المكان الصحيح لمدينة البصرة، فكان رد فعله شديد الحلم والتفهم لجهل ورعونة الطفل الذي كُنته، حيث قال: “طيب يا سي عماد.. ماشي يا عم الفلوطة.. جل من لا يسهو يا سيدي”، ثم أكمل الشرح وكأن شيئاً لم يكُن، وبعد انهاء الدرس ذهب إلى مكتبه ثُم أرسل الفراش في طلبي، وعندما دخلت عليه قام من كرسيه وأخذني بالحضن وقَبَلَ جبيني، وقال لي أنه فخور بي ويتمنى أن يراني في أفضل مكان في الدنيا، ثُم أطرق قليلًا وقال في نبرة حزينة أنه عاتب علىَ لطريقتي في تصحيح المعلومة د، فما كان لي أن أتسبب له في حرجٍ أمام زُملائي في الفصل، ثم أتبع عتابه بدرس قويم في فضل عدم إحراج الناس، مستشهدًا بآيات وأحاديث ونماذج بشرية مُتعددة.

نرشح لك: عماد العادلي يوضح السبب وراء غلق بعض فروع “ألف”

التزمت الصمت التام ثم استأذنته بعدما أنهى كلامه وخرجت، ووجدتني أجهش بالبكاء وظل لوم النفس يُلازمني فترة ليست يسيرة، وظللت طوال العام الدراسي أحكي لكُل زُملائي وأساتذتي عن موقف الأستاذ أبو بكر النبيل، فقد علمني الرجُل درسًا في هذه السن المُبكرة عن أدب النقد وأخلاق الحوار ظل يُلازمني حتى الآن، فصرت أتحسس مواضع الأذى النفسي للآخرين وأتجنبها، وصرت أتحوط من كُل ما يُسبب حرجًا أو خجلاً لأحد.

نرشح لك: تفاصيل محاضرات “الرواق الفلسفي” لـ عماد العادلي

وجديرا بالذكر أنني ورغم مرور عشرات السنين على هذه الواقعة مازلت حتى يومنا هذا على علاقة وطيدة بالأستاذ أبو بكر.. أزوره في المُناسبات وأطمئن عليه من حين لآخر، وأذكره بذلك التلميذ النزق الذي تجاوز في حقه وصحح له معلومة أمام التلاميذ، ونضحك حين يأتِ ذكر الفلسفة التي تخصصت فيها فيما بعد وتركت الجغرافيا عشقي الأثير، فيقول لي والضحكة لا تُفارق وجهه الطاعن في السن “يعني تقل قيمتي في الفصل عشان عيون الجغرافيا وفي الآخر تروح تدرس فلسفة حسبي الله ونعم الوكيل”. ربِ جازه وأثبه كما رباني صغيرا…

أحمد شبكة يكتب: أستاذ “وهيب”

 

حديث الكاتب والناشر كريم الشاذلي على هامش حفل توقيع “الملك والكتابة” للكاتب محمد توفيق