كيف تحوَّلت قضايا الرأي العام لمجرد "تريندات"؟

إيمان مندور

“الرأي العام أشبه بشخص ضخم الجثة مستسلم للرقاد، بين الحين والآخر يصحو من سباته بغتة، وعليك أن تستغل الفرصة لإقناعه بفكرة واحدة في غاية البساطة والإيجاز، لأنه سرعان ما يتمطى ويتثاءب ويتقلب ويتهيأ للنوم من جديد، ولن تستطيع منعه أو إيقاظه، ثم تنتظر بخبث أن يهتز سريره”.. هكذا يصف الأديب اللبناني أمين معلوف حال قضايا الرأي العام حول العالم عمومًا، وإن شئنا طبقناه على مصر خصوصًا، فنجد الحال واحدةً؛ ضجة كبيرة مفاجئة ثم خمول متدرج حتى الفناء، إلى أن تظهر ضجة أخرى تشغل الساحة ثم تخمل تدريجيًا وهكذا وهكذا.. لا نهاية للكرَّة.

مصطلح “قضية رأي عام”

في العقود الماضية وحتى بدء انتشار موقع “فيس بوك” في مصر بكثافة في عام 2008 أو ما يقاربه، كان مصطلح “قضية رأي عام” له ثِقله في عالم الصحافة، فما إن تظهر قضية أو ظاهرة بهذا الحجم من الانتشار يتهافت الجميع على متابعة تفاصيلها من الجمهور والإعلام على حد سواء، وتستمر لفترة حتى تنتهي أحداثها على أي وجه كان، ولا يهم إن كانت الواقعة ذات الاهتمام تستحق أم لا، المهم أنها أضحت حديث الشارع، ولنا أمثلة كثيرة في قضايا أحمد الفيشاوي وهند الحناوي، أو عبارة السلام 98 وغيره الكثير.

المصطلح نفسه وإن استخدمه البعض الآن أحيانًا _على استحياء_ لم يعد كالسابق من حيث الصفات التي كانت تميزه، ففي السابق كانت القضية التي يتم تداولها على أنها “قضية رأي عام” لم يكن الجدل الخاص بها ينتهي حتى تنتهي الأزمة نفسها، لذا تظل عالقة في الأذهان لسنوات طويلة عكس ما يحدث الآن، حيث نجد تتابُع القضايا التي تحولت لـ”تريندات” يُنسي بعضه بعضًا.

الفرق بين القضية و”التريند”

بسؤاله حول الفرق بين المصطلحين، قال الكاتب الصحفي محمد توفيق لـ إعلام دوت أورج إن هناك اختلاف جذري بين قضية الرأي العام وبين “التريند”، فالقضية لا بد أن تكون “حقيقية” ومن شدة أهميتها يتبناها المجتمع، ثم تغير أمورًا فيه، وفي الغالب كانت تُثار من جانب أحد الكتَّاب أو الصحف، لكن الآن أصبحت السوشيال ميديا هي من يطرح القضايا، وتراجع دور الصحف في ذلك، حيث أن 90% مما ينشر في الصحف هو تلقي لما يكتب على السوشيال ميديا، ثم يتم التعامل معه، سواء بتضخيمه أو بتجاهله.

أضاف أن تأثير الصحف الآن في المجتمع لم يعد كالسابق، فقديمًا كان لها نفوذٌ وحضورٌ قوي، فمثلًا مؤسسة مثل “أخبار اليوم” عندما كانت تتبنى قضية ما، كان لا بد أن يحدث تغيير كرد فعل على ما تم إثارته، سواء إقاله وزير أو إجراء تعديل ما أو أي شيء، المهم أنه يحدث تحرك، حتى لو كان ضد الكاتب المتبني للقضية، لكن “التريند كبيره يوم ولو كمِّل يومين بيبقا حاجة عظيمة، ولو طول عن كده بتبدأ حملة تريقة إنه خلاص زهقنا”، على حد تعبيره.

أوضح “توفيق” أن القضية الحقيقية قد تستغرق أسابيع أو شهورًا حتى يتم وضع نهاية لها، فمثلا أشهر قضية رأي عام في تاريخ مصر كانت قضية الأسلحة الفاسدة، والتي استمرت 4 سنوات، منذ عام 1950 وحتى 1954، في السنة الأولى الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس يكتب عنها في روزاليوسف، يليها عام كامل من ردود الأفعال، ثم عام الثورة، ثم تم النظر فيها بالمحكمة حتى صدرت الأحكام الخاصة بها.

 ضوابط القضايا

شدد الكاتب الصحفي محمد توفيق على أن القضية لها ضوابط والهدف الأساسي منها فكرة التغيير، حتى لو لم تستطع فعله، لكن “التريند” ساخر وكوميدي ولا يحتكم لأي ضوابط، فقد يتسبب فيه شخص عادي لمجرد أنه يملك عددًا كبيرًا من المتابعين، لكن في الحقيقة هناك فرق بين كون الشخص لديه متابعون كثر وبين كونه مؤثرًا فيهم، والأمر ذاته ينطبق على الصحف، حيث أنها لم تعد قادرة على تحريك الرأي العام من خلال صفحاتها التي ربما يتابعها الملايين، فهي بلا أي تأثير فيهم، مضيفًا: “الصحف حاليًا مبتقدرش تحرك ترتيب أولويات للناس، أنت مش عارف تأثر حتى على القراء بتوعك، فأوراق اللعب مبقتش في إيدك كصحافة خلاص”.

تابع أن 95% من قوة أي صحيفة الآن تأتي من كونها تستثمر بقوة في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، حتى تظهر وكأنها مؤثرة، لكنه في النهاية تأثير على طريقة “الخليل كوميدي”، أي أن كثرة المتابعين لا تعني أنهم يؤمنون بقضيتك أو أنك مهم ومؤثر فيهم.

سبب اختفاء مصطلح القضية

وحول عدم استخدام الصحافة الآن لمصطلح “قضية رأي عام” حتى في القضايا التي تنطبق عليها شروطه، يقول “توفيق” إن المصطلح اختفى “زي حاجات كتير بتختفي” أو نتيجة ما نسميه بـ”طبيعة العصر”، فالبعض أصبح يرى أن هذا المصطلح مبالغ فيه ولم يعد مناسبًا فبالتالي تم الكفّ عنه، بالإضافة إلى أنك أصلا كمؤسسة لم تعد المسيطر في مجريات الأمور، فمثلا قضية الأسلحة الفاسدة التي أشرنا إليها سلفًا، كان المسيطر فيها إحسان عبد القدوس وروزاليوسف لأن قوته تكمن في أنه المصدر الوحيد للمعلومة، وبالتالي نتج توزيع ضخم للجريدة وقتها، لأن هناك قضية ما مهمة للغاية هو من يمتلكها فقط، فلو طبقنا هذا المعنى الآن بأن هناك من يمتلك المعلومات الوحيدة عن قضية ما ولديه القدرة على التأثير والتوجيه، لوجدناه نادرًا للغاية، فإما جدل بدون أدلة، أو أدلة بدون ضجة تُحدث تأثيرًا كبيرًا.. باختصار قضية الرأي العام تكمن في امتلاكك للأدوات التي تستطيع من خلالها أن تؤثر في الرأي المجتمعي أو حتى السيطرة عليه إذا شئت.

وبسؤاله عن أزمة مستشفى 57357 الأخيرة التي فجّرها الكاتب وحيد حامد، قال “توفيق” إنها تصلح كقضية رأي عام، لكن حتى تأخذ هذا اللقب لا بد وأن تستغرق وقتًا أطول وتنتهي إلى نتيجة واضحة ومنطقية تحسم من خلالها القضية، لذلك نهايتها واستمراريتها هما من سيحددان إن كانت قضية رأي أم لا، فهي مع بداية ظهورها أحدثت جدلًا بالفعل على أرض الواقع وتحولت لـ”تريند” في الوقت ذاته، لكن حتى تخرج من دائرة التريند لدائرة لقضية لا بد وأن تستمر بنفس القوة وتؤدي إلى نتيجة في النهاية، ويكون بها وثائق ومستندات وليست انطباعات يظن أصحابها أنها أراء، لأن الأراء هي ما يستند على معلومة، وبالتالي أي حديث بدون أدلة يكون انطباعًا وليس رأيًا.

اختتم “توفيق” حديثه مشيرًا إلى أن أزمة مثل “صفر المونديال في روسيا”، كان لا بد أن تكون قضية رأي عام ويتم بسببها إجراء تحقيقات موسعة وإقالة عدد من المسؤولين، لكن للأسف “ماتت” بسبب تحولها لـ”تريند” ساخر على السوشيال ميديا، وأصبح ملخص الواقعة كلها في كوميكس رهان رضا عبد العال، ليتحول الأمر لـ”نكتة” استفاد منها “عبد العال” فقط.

التريندات

قبيل انطلاق ثورات الربيع العربي، سرعان ما لبثت الأوضاع أن تغيرت وأضحى الرأي العام يستيقظ أولا على “فيس بوك” ومنه إلى الشارع، حتى تباطئ شيئًا فشيئًا وصار إلى ما هو عليه الآن، مكتفيًا بالانفجار بين جدران العالم الافتراضي، فتجد بعض الأحداث ينتفض رواد الموقع الأزرق لها، لكن لا حديث في الشارع واقعيًا عنها.

الكل يمضي إلى وجهته في الحياة العملية، ويعود في المساء إلى “فيس بوك” ليستكمل ما فاته، وتعاد الكرَّة يوميًا بلا تجديد، فاليوم مصر كلها تتحدث عن الراقصة جوهرة، وغدًا عن عبد الله السعيد، وبعده عن رامز جلال، ثم المنتخب، ثم  إصابة محمد صلاح، ثم زواج توفيق عكاشة، وتتوالى الأحداث يوميًا، لكن الشارع الحقيقي لا يشغله هذا ولا ذاك، بل ينصب تركيزه كله على ما يتعلق بالحياة المعيشية.

صحيح أن “التريندات” تتسم بمرونة وسرعة كبيرة في لفت انتباه الناس إلى التحرك ومتابعة أو مواجهة أمر ما، لكن التأني والانتظار في القضايا الكبرى التي تتطلب أوقاتًا طويلة حتى تنتهي لا يزال مطلوبًا، حتى تثبت فعاليتها.

الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز يقول إن هذا التحوّل من القضايا إلى “تريندات” سببه تزايد الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي، حيث ظهرت حالة يمكن تسميتها بـ”الهتشقة السياسية” والتي تعني أن كل القضايا الكبرى ذات الأهمية والتي كان يُطلق عليها مصطلح “قضية رأي عام” سابقًا، لا تجد طريقها إلى الاهتمام العمومي من دون أن يكون هناك “هاشتاج” معين تكون القضية قد حصلت من خلاله على وسم الأهمية.

عيوب التحول من القضايا إلى تريندات

وردًا على سؤال إعلام دوت أورج حول عيوب هذا التحول الكبير، قال “عبد العزيز” إن أول مساوئ هذا الأمر هي اللجان الإلكترونية والتلاعب عبر الويب الذي يضع بعض القضايا في بؤرة الاهتمام دون أن تستحق ذلك، والثاني أن تلك القضايا التي لا تجد طريقها إلى الهاشتاج تفقد أهميتها بصرف النظر عن مدى حيويتها الحقيقية، بالإضافة إلى أن الأهمية أصبح الآن يمكن اصطناعها بسبب بعض “تكنيكات” التلاعب مثل اللايكات والشير.

تابع أن هذا التحول لـ”تريندات” عبر وسائل التواصل زاد من دور تلك الشبكات على حساب دور الحقيقة، أي أن هؤلاء الأشخاص الذين يُطلق عليهم “انفلونسرز” ولديهم آلاف المتابعين، أصبحوا قادرين على تسويق قضايا ربما لا تستحق الأهمية أو الوجاهة لمجرد أن لديهم شبكات تواصل قوية، مشيرًا إلى أن هذه العيوب لا تعني أن الوضع سابقًا كان صحيحًا بأكمله، لأنه في السابق كان هناك “فلتر” اسمه القائم بالاتصال، وهم المتحكمون في النشر والإذاعة في وسائل الإعلام التقليدية، موضحًا أن هؤلاء هم من كانوا يستطيعون صناعة “قضية رأي عام”، لكن حاليًا توسعت الدائرة وأصبح الأمر أكثر عرضة للتلاعب.

التأثير في الفن

وبالنظر في تأثير كلا المصطلحين في الفن، نجد أن قضايا الرأي الكبرى الحقيقية تؤثر في الفن ويؤثر فيها، لدرجة أنها تستلهم منه قصصًا وتحولها لأعمال فنية أو يحدث العكس وتتحول مناقشات الفن إلى قضايا كبرى في المجتمع، ولنا أمثلة كثيرة في أفلام “أريد حلًا”، “قضية سميحة بدران”، “ملف سامية شعراوي”، “المغتصبون”، “الحب في طابا”، أو مسلسلات مثل “قضية رأي عام” وغيره. لكن على الجانب الآخر نجد الفن لا تستهويه “التريندات” ولا ينساق ورائها، لأن عمرها الزمني أقل من أن يسمح حتى بمجرد التفكير في استغلالها.