هاني هنداوي يكتب: فليكن "الفيس بوك" اختيارنا.. !

يتبادلون التهنئة ثم التعازي، يتمازحون فيما بينهم ثم سرعان ما يتصارعون بالكلمات وكأنهم خصومًا ألدادًا.. يستدعون الله في كل أوقاتهم ليطمئنوا بأنهم ما زالوا يشعرون بخير، فهو المُنقذ دائماً من البلاء وصاحب النعمات.. البعض منهم يسعي للبحث عن ذاته بين أفراح وآلام الآخرين، والبعض الآخر يتعمد إخفاء حقائقه بمئات الأقنعة، بفضله ثاروا علي جهلهم وعبوديتهم فحملوا منه المشاعل ليستضيئوا من الظلمات، ومن خلاله أيضاً جبنوا واستكانوا وارتدوا إلي الكهوف يلعنون كل المصابيح المتوهجة بالحلم والحق في الحياة.

وصفه أحدهم في نبرة استعلاء بأنه ملهاة تستوجب التجاهل والإهمال، فرد عليه آخر باستهزاء يرجوه الاستزادة من علمه وخبراته وعمقه، في إشارة إلي فراغ عقل صاحب دعوة الاستغناء، حاول الكبار أن يمتلكوه لأنفسهم من منطلق قوة، فلا يستحوذ عليه أحد سواهم، لكنه أبي أن يصبح دُمية حمقاء، فهو ملكاً للضعفاء والمعذبين والمقهورين والمكسورين والمهزومين، أما غيرهم فهم ضيوفاً عابرين يوماً سيرحلون، فلا تكترث بهم أو تعبأ بالرد علي أحاديثهم الصماء.

إن شعرت بالتعب أو الملل أو الوحدة فبإمكانك أن تستند إليه للراحة، ولا حرج إن رغبت في الإقامة بصفة دائمة دون إزعاج، مستفيداً بكل خدماته المُقدمة من متابعة ومشاركة وتبادل الأحاديث مع غيرك ممن حجزواً لهم مكاناً ثابثاً ومستقراً هناك، كما أنه لا مانع لديه إن زرته بشكل خاطف بين الحين والآخر، بلا موعد سابق، فأبوابه مفتوحة علي مصراعيها صباحاً ومساءً، صيفاً وشتاءً، في أحلك الأوقات وأسعدها.

بعضنا يستمد منه طاقة هائلة للصمود والتحدي ومواصلة المضي للأمام، وهناك في المقابل من يحاول حثيثاً عرقلة هذه الانطلاقة.. بعضنا يفرُ إليه مدفوعاً بأمل العثور علي واقع أكثر حُسناً من عالمه القبيح، يشكو إليه علته وهمومه، ويبكي عند جدرانه وكأنه صار الصديق الحميم، وهنالك من يهرب إليه ليواري قبحه الشخصي ظناً إنه لا يكذب ولكنه يتجمل.

ستجد من يدعو للأخلاق في أحاديثه ونصائحه لكنها دائماً تضل طريقها إذا ما انحرفت إلي سلوكه وعمله، وهناك من يُذكرك بها خشية أن تنسياها فتضلا سوياً في عالم تحيطه الخطيئة وتهجره الفضيلة.. ستري كاذبين يزعمون الصدق، وجهلاء يدّعون العلم، ووحوش تتخفي في أقنعة البراءة، ولصوص يقسمون علي الحق، وجلادين ينادون بالحرية، وأغنياء يحتقرون الفقراء، وفقراء يعايرون الفقراء، ووسط كل هؤلاء ستجد من يزايد علي الجميع.

لكن ما الذي سيجعلك تحشر نفسك في مكان واحد مع كل هذا الهُراء؟. أهناك ما يضطرك؟. ألا تخشي أن تتشبه بهم فتُصبح مثلهم؟. ألا تعرف أن من عاشر قوم لفترة صار وكأنه واحداً منهم؟.. أهناك إجابات أم مجرد هرطقة وخرافات؟.

كل هؤلاء شخوصاً فوق خشبة مسرح كبير تتوزع فيه الأدوار بالتساوي بين الخير والشر، فالعالم الحقيقي لا يعُمه السلام والمحبة والعدل بالقدر الذي يتمناه البشر، وهذا ينسحب علي أي عالم آخر، فهناك سكانه الطيبون أصحاب النفوس النقية والخجولة والعطوفة والمُحبة، أغنياء تحسبهم فقراء من التعفف، وفقراء يملكون رصيداً من الكبرياء وعزة النفس يضاهي الملوك والأمراء.. وعلي النقيض يسكن آخرون ممن يمثلون كفة الميزان المقابلة، فيحتدم أثناءها الصراع بين الطرفين علي طريقة الحرب الأبدية بين الخير والشر، العدل والطغيان، الصدق والنفاق، الحرية والعبودية، وقد يستغرق مداها وقتاً طويلاً ليُرجح أحدهما كفته علي حساب الآخر.

في هذا العالم ستجد كل شيء تريده وأي شيء ترفضه وتنفر منه، وما عليك إلا الاختيار بين طريقين واضحي المعالم، فإما أن تمضي في اتجاه الطريق غير المُمهد بأن تقبل التنوع والاختلاف في الطبائع والثقافات، وتمنح مساحة حرة داخل عالمك ليتحرك الآخرون فيها كيفما شاءوا دون وصاية أو تأفف.. وهنالك الطريق الأسهل بأن تُغلق علي نفسك الأبواب بإحكام، باستثناء باب وحيد تُبقيه مفتوحاً ليسمح بمرور المداحون والمؤيدون والموالون في الأفكار والرؤي.

هو مرآتك التي تستطيع من خلالها رؤية حقائقك وحقائق الآخرين بوضوح.. هو العالم الصاخب المليء بالسخرية والحيوية والدفء، المزدحم بالكثير من العلاقات المتشعبة والمترابطة في صورة تدعو للتأمل، فهم أول المهنئين لمناسباتك السعيدة وأول المؤازرين في أوقات الشدائد والمِحن.. هو عالمك الذي صنعته علي الطريقة التي تحبها وتتمناها، والمحيطون هم رفقاء كل خطوة تطأها قدمك فوق تلك الأرض الشاسعة المسكونة بالعجائب، فإما أن تقبل بقوانيه ولوائحه وأدبياته حتي تتصالحا فتشعر نحوه بالارتياح، أو تظل ناقماً عليه معلقاً فوق شماعته كل المصائب والخطايا التي شهدتها الخليقة منذ أن بدأت.

أقول قولي هذا بعد أن سألت واستشرت وجربت فعرفت أن لكل شيء في عالمنا نقيضين، فحسنه حسن وقبيحه قبيح، ولا أمراً إلا وفي ثناياه كل درجات الخير وكل أساليب الشر، ووحدي أنا وأنت من يملك الاختيار والقرار، أما إن سألتني عن رأيي فقد اهتديت إلي ما أراه صواباً لا غضاضة في اتباعه والسير علي نهجه… لذا فليكن “الفيس بوك” هو اختيارنا.