هاني هنداوي: كم خذلتني يا "مو صلاح"...؟!

عشت معظم سنوات العمر في المنطقة الوسطى ما بين منصات القمة والتتويج، وبين السلم المؤدي إلي القاع والبدروم.. قضيت الكثير من الوقت في تلك الطبقة الرمادية المحشوة بأشخاص عاديين، عادة ما يمضون حياتهم وينهونها دون أن يشعر بهم أحد، فما أثاروه من ضجيج وصخب طيلة مشوارهم لم يكن كافيًا حتى لإيقاظ طفل رضيع يشكو دائماً من قلة النوم والراحة.

هاني هنداوي
هاني هنداوي

سامحني علي هذه المقدمة التي تبدو غامضة ومراوغة قليلاً، فليس من اليسير علي نفسيتي ـ أنا أو غيري ـ أن أكتب معترفاً بتلقائية وبشكل مباشر بأنني عشت حياتي النصف في كل شيء.. نصف شاطر في الدراسة، ونصف شاطر في العمل، ونصف شاطر في الطموح، ونصف شاطر في تحقيق الأحلام، ونصف شاطر في كسب قلوب الناس، وأظنني حتى وقتنا هذا مازلت محتفظا عن جدارة بموقعي المعتاد في المنتصف، راضيا بما كتبه الله لي من حظ، وبالتالي لا غضاضة اطلاقاً في أن تناديني علي سبيل السخرية بـ”نصف الكاتب”.

لن أستطيع أن أحصي لك كم عدد المرات التي شعرت فيها بالغيرة تجاه زملاء دراسة أو عمل، فالعدد أكبر من قدرتي علي التذكر والحفظ.. والشيء نفسه إزاء المرات التي أصبت فيها بالإكتئاب الشديد لأنني فشلت في مرة أن أصبح نابليون بونابرت حين أصبح إمبراطوراً في سن التاسعة والعشرين، أو أكون شبيها بجورجي أمادو الذي كتب أعظم رواياته “بحر ميت” بعمر الواحد والعشرين.. فأنا كاتب “رمادي” دون شك إذا ما قارنت نفسي بكاتب “ناصع البياض” مثل نجيب محفوظ الذي ألف 3 روايات في العام نفسه الذي كتب رائعته “أولاد حارتنا”، وأظنه كان وقتها في عمر الثلاثينات.. فيا لتفردهم المُبهر ويا لخيبتي الثقيلة.

أتعرف كم عانيت عندما مات أحد عباقرة الموسيقي “موتسارت” وهو في الخامسة والثلاثين بعد أن منح العالم أكثر من 600 عمل موسيقي ما زالوا نابضين بالحياة بعد ما يزيد عن 250 عاماً علي رحيله؟.. أتُدري المرارة التي التصقت بحلقي لسنوات حين تقلّد زميل المهنة الراحل أحمد بهاء الدين بموهبته وحدها رئاسة تحرير دُرة المجلات وقتها “صباح الخير”، وكتب في عمره الصغير هذا سلسلة مقالات بعنوان “يعني إيه مبادئ؟”.. اتُدرك عمق الجُرح الذي نكأته بنفسي لما حاولت وضع كل هؤلاء في مقارنة مع حالي، وقد بلغت الـ43 عاماً من دون أي إنجاز أو مجد يُذكر؟.

نرشح لك: محمد صلاح: نخوض كأس العالم بدون ضغوط

أظنك بتُ الآن على قناعة بما قاسيت وتجرعت، وكم أنني كنت مُحقاً حين غرقت لفترات طويلة في بحور الإحباط واليأس، ولم تكن لميولي الشديدة للانهزامية أي ذنب في هذا كما زعم البعض، وإنما كان ذلك رد فعل طبيعي لصدمة “النصف في كل شيء”.. وها أنا حمداً لله تعافيت أخيراً من هذا الداء بعد أن تقبلت حقيقة “نصف الموهوب” في خنوع المغلوب على أمره، فالتزمت ثانية بموقعي في المنتصف خشية أن أفقده للأبد، مرددا لنفسي في نبرة استسلام للأمر الواقع: “من خرج من داره…..”.

لعله حان الوقت لتسألني: “سيدي.. ولكن أين مو صلاح في كل هذا؟ أتحدثنا عنه أم عنك أنت وبلاهتك وذكرياتك الحمقاء؟”.

هو “صلاح” دون شك من أقصد الكتابة عنه، فأنا لا أملك إنجازاً موازياً لأكتب عنه جملة واحدة مفيدة، وإنما من يستحقون الكتابة والتخليد هم من صنعوا المجد دون الحاجة إلي ما يسمونها بـ”زقة لفوق”، فهؤلاء المُلهمون يعيشون بيننا بلا حجاب لكنهم يظلون للأبد مُحلقين بمواهبهم وأعمالهم في مرتبة أعلى، ليست رمادية أو متأرجحة كالتي أعيشها بل أخري جميلة اسمها “عالم النبغاء”.

ظل هذا العالم الغريب عصيا لا تطوله يداي أو مخيلتي حتي جاءني مصادفة شخص اسمه محمد صلاح.. دعك من هؤلاء الرفقاء الذين أصابوني لفترات طويلة بخيبة أمل لقوة تفردهم، فما عدت مشغولاً بهم علي الإطلاق أمام مُلهم جديد منحني دفعات قوية من الأمل لا اليأس والشعور الدائم بالهزيمة.

دخل محمد صلاح من باب التفاؤل والأمنيات علي حين غُرة، فخرجت كل الظلاميات من الأبواب الخلفية غير مأسوف عليها.. فهذا الرجل لا يملك سطوة نابليون، وخيال جورجي، وفلسفة نجيب، ورجاحة عقل أحمد بهاء الدين، لكنه يملك ما هو مساوٍ لهم وأعظم وهي العزيمة.

هو شخص ولد في منطقة أقل من الرمادي بقليل فملك زمام أمره وآمن بنفسه وتحدي قدره حتى أصبح سيد القمة بلا جدال.. فماذا فعلت أنا لأخرج غانماً من نفق المنتصف المُظلم، بخلاف ما أفعله دائماً من التذمر والشكوي والميل الدائم للتبرير والاستسلام؟.. فكم خذلتني أمام نفسي يا صلاح؟!.

كثيرة هي الأسباب التي سجنتني لسنوات داخل دائرة القبول بالهزيمة، لا داع الآن لإضاعة الوقت في تذكرها وذكرها، فأنا مشغول حالياً في وضع مخطط ثوري للتمرد علي منطقة “النصف في كل شيء”، بدءاً من تحطيم كل مفاهيمي وقناعاتي القديمة عن صعوبة الحلم واستحالته، فما عاد هناك مستحيلاً يمنعني من أن أقبض بقوة علي زمام مركبي لئلا يشرد ويهلك بفعل الرياح، وأصل سالما إلي شاطئ الأحلام، متوجا بأكاليل النصر التي مللت من رؤيتها من دون ملامستها لو مرة.

قل يا صلاح.. ألا استحق لمرة يتيمة أن أقترب من منصة القمة والتتويج؟. ألزاماً عليّ العودة كل مرة من حيث جئت وعشت ورأيت الحياة كنصف إنسان، ونصف موهوب؟. أهناك مشكلة لديك يا صلاح لو أصبحت مثلك؟ هل ستشعر بالغيرة مني؟. لا أظنك ستفعل فأنت تعرف جيداً قدر نفسك ولن يعطلك شيئاً في طريقك نحو القمة والخلود.

يا صلاح.. أعدك من التو واللحظة أن أكمل ما تبقي في عمري دؤوباً حتي أكون مثلك قادرا علي إلهام غيري، فلا أقف دقيقة واحدة بعد الآن في منطقة المنتصف، ولو من قبيل النوستالجيا.. لكن فقط يتبقي سؤال أخير إن أذنت وأُقسم لك بأنني سانطلق من بعده إلي الأمام مسرعاً مُقبلٍ غير مدبر: “قل لي يا مو.. من أين أبدأ؟”.