المقال الذي تحدث فيه أحمد خالد توفيق عن وفاته

رحل عن عالمنا، مساء أمس الاثنين، الكاتب والروائي الكبير الدكتور أحمد خالد توفيق عن عمر ناهز الـ55 عامًا، تارًا خلفه إرثُا كبيرًا من الكتب والروايات والمقالات لا يزال القرّاء _وتحديدًا الشباب منهم_ يقبلون على شرائها.

ومثلما عبّر “توفيق” بدقة عن أوجاع الإنسان ومشاعره وأحواله بين الفرح والحزن عمومًا، كان لحديثه عن وفاته نفس الدقة والقدرة على التنبؤ أيضًا. وفيما يلي نستعرض المقال الذي كتبه الدكتور أحمد خالد توفيق ونشره موقع “اليوم الجديد” بتاريخ 21 أكتوبر 2015 تحت عنوان “بناقص واحد”، والذي تحدث فيه الكاتب الراحل عن مرضه ووفاته.

فيما يلي نص المقال:

لن أذكر أسماء أدوية حتى لا يُقال إنني استغل مساحة المقال لمشاكلي الخاصة، أو إنني من الطراز الذي يسوّد المقالات بسبب اختفاء “الفواجراه” من السوق مما يفسد شهيته. القصة ببساطة هي أنني أعتمد على عقارين للقلب بالغي الأهمية.. اعتمادي من نوع حياة أو موت. طبعًا لابد أن يختفي العقاران من السوق نهائيًا. تدخل كل صيدلية وتسأل، فينظر لك الصيدلي ويبتسم ويهز رأسه:

ـ”ناقص والله بقى له فترة..”

ـ”والبديل؟”

ـ”ناقص برضه”

أنا طبيب ويمكنني أن أذكر له ستة بدائل محتملة تحوي نفس المادة الفارماكولوجية، لكنها كلها (ناقصة برضه)..

تذهب لصيدلية أخرى فيرمقك الصيدلي في غيظ بما معناه: “ليس هذا وقت المزاح والمسخرة والتذاكي.. أنتَ تعرف جيدًا أنه غير موجود”، ويضرب كفًا بكف بعد انصرافك ويهمس لصاحبه: “لأ.. حدق قوي.. الناس دي بتستهبل”.

لكن هذا أفضل من ذلك الصيدلي الذي لا يرد عليك أصلًا.. لقد انتهى عصر الكلام مع واحد مثلك منذ زمن.

هكذا أكتشف أنني سأموت بعد ثلاثة أيام مع انتهاء آخر ستة أقراص لدي.  أتصل بأساتذة القلب الذين يتابعون حالتي فيقترحون في بشاشة اسمًا لبديل.. أضع سماعة الهاتف دون أن أجرؤ على إخبارهم أن البديل غير موجود. لقد انتهى أمري.. أنا “بطة ميتة” كما يقول الغربيون.

هكذا أدركت أن سياسة (كلب وراح) أو (بناقص واحد) التي تمارسها الدولة قد ظفرت بي أخيرًا. نحن كثيرون جدًا ومزعجون، وليت مصيبة تأخذنا، أو كما يقول صديقي: “احنا بقينا ضيف تقيل عليهم، والمفروض بأه نخلي عندنا دم ونسيب لهم البلد، ويا بخت من زار وخفف”.

استطاع صديق صيدلي أن ينقذني ببضع علب سوف تنتهي طبعًا خلال شهرين لأبحث عن مفر آخر من الهلاك، لكني على الأقل ظللت حيًا بما يكفي لكتابة هذا المقال. والسؤال هو: ماذا يفعل من لا يعرف صيادلة؟

الحقيقة أن فوضى اختفاء الأدوية متفاقمة بشكل غير معقول.

اعتدنا دومًا على أن يكون هناك دواء حيوي مختف، وكنا نطلب من أقارب المرضى أن يفتشوا بعناية أو يذهبوا لمكتب الشكاوي أو يكتبوا لأقاربهم في الخارج. هذه مشكلتهم وعليهم حلها. لكن الملاحظ أن الأدوية التي تختفي هي الأدوية الحيوية التي لا بديل لها. أذكر أيام نقص الأنسولين الكئيبة، عندما كان على مريض السكري أن يواجه الحقيقة ويعود لما قبل عصر (بانتنج) و(بست)، أو يصطاد كلبًا ليفرم بنكرياسه ويحقن به نفسه. هناك دائمًا مواسم تختفي فيها أدوية الغدة الدرقية.. وهي بالمناسبة أدوية رخيصة جدًا وفعالة جدًا والحرمان منها قاتل. ثمة قاعدة هي أن أي دواء رخيص ومفيد يوقف إنتاجه على الفور، وهي تطابق قانون مورفي القائل: “كل شيء جيد يجد من يوقف إنتاجه”.

في العام 2013 رصدت وزارة الصحة نقص العديد من الأدوية في السوق، واختفاء أكثر من 30 عقارًا حيويًا، يأتي في مقدمتها مستحضر داي نايترا للذبحة الصدرية، كما لوحظ نقص الإنسولين والإيفيدرين والأتروبين والإدرينالين وغيرهم، فضلًا عن اختفاء أمبولات سوليوكورتيف لعلاج أزمات الربو الحادة وحساسية الصدر. وكشف رئيس اللجنة النقابية للصيادلة الحكوميين في أبريل 2014، عن اختفاء أكثر من 111 صنفًا دوائيًا مهمًا لعلاج الفيروسات والسكر والمضادات الحيوية المختلفة.  تضم القائمة أدوية ليس لها مثيل في السوق المصرية، مثل عقار الفاكيموتريبسن لعلاج الارتشاح والتورم. وبعدها بعدة أشهر، تكررت أزمة اختفاء أدوية ثانية، حيث اختفى ما يقرب من 111 دواء من الأسواق، لمدة تقارب الشهرين، ومنها مصل سم الثعابين. مع مطلع عام 2015، استمرت أزمة اختفاء الأدوية، لتمتد وتخفي 250 صنفا دوائيًا من الأسواق المصرية خلال ثلاثة أشهر، شملت العديد من المضادات الحيوية والفيتامينات وأدوية لعلاج أمراض العيون والسكري وضغط الدم والجلطات والكبد والكلى والأمراض العصبية والنفسية وكذلك التنفسية والهضمية، علاوة على موسعات الشعب الهوائية ومضادات الاكتئاب. الألبومين البشري من الأدوية الخجول التي تهوى الاختفاء.

مؤخرًا -الكلام لدكتور ميشيل حنا وهو صيدلي-  لوحظ اختفاء دواء القلب إياه الذي لن أذكر اسمه درءًا للشبهات، واختفاء أقراص البوتاسيوم، واختفاء دواء ليفودوبا المهم لمرض الشلل الرعاش (باركنسون). أما الطامة الكبرى  فهي اختفاء محلول الملح Saline  تمامًا، وهو دواء جوهري ويستخدم كمذيب توضع فيه الأدوية التي تعطى وريديًا. أي أنك في المستقبل ستملأ قُلة ماء من الحنفية وتعلقها محلولًا للمريض.

قرأت في “فيس بوك” كلامًا مؤسيًا لطبيبة قلب يبدو واضحًا أن ضميرها يقظ، وقد ترجمت مصطلحاتها الإنجليزية: “وأنا فـ المستشفى جاتلي 3 حالات ألم صدر..  بعد ماعملتلهم رسم قلب طلعوا احتشاء حاد في عضلة القلب.. واكلم العناية فـ أول حالة يقولولي إن ماعندهمش الحقنة المذيبة للجلطة.. قلت لهم خلاص أبعتهم لعناية تانية قالولي ماتتعبيش نفسك يادكتورة.. الحقنة مش موجودة فـ مصر كلها!!! مابقتش مصدقة نفسي وبصيت للمريضة القعيدة ع كرسي متحرك ومش عارفة أقولها إيه..! وهي بتتلوّى من الألم وتجاعيد وشها غرقانة دموع! أقولها انتِ اتولدتي وعيشتي فـ بلد زبالة، بينك وبين الموت ساعات، ومش عارفة أعملك حاجة.. وكذلك في 2 عيانين بعدها وفـ نفس الوردية..3 حالات جلطة فـ القلب..ماقدامهمش حل غير إنهم يعملوا قسطرة قلبية فورًا تكلفتها حوالي 18 ألف جنيه! والحاج يقولي طاب يابنتي ماتعرفيش حد يجيب لنا الحقنة.. قلت له والله ياحاج ما أعرف بس أعرف ربنا…هو بس اللي يقدر يرحمنا من الجحيم اللي احنا عايشينه ده!”.

لاحظ أن الحقنة المذيبة للجلطة هي الشيء الوحيد الذي ينقذ حياة المريض وقتها، وأن اختفاءها هو أقرب لأن تطلق الرصاص على رأسه.

في الوقت نفسه تجد في السوق ألف دواء لقرحة المعدة من طراز (مثبطات ضخ البروتون) وألف مضاد حيوي وألف دواء مضاد للتأكسد ومقو للكبد..  سياسة دوائية عجيبة فعلًا.

تفسير هذه الظاهرة معقد، ويلخص د. ميشيل المشكلة في سببين: ارتفاع سعر الدولار ما يسبب مشاكل في استيراد المواد الخام، بعد أن أدى تخفيض التصنيف الائتماني لمصر إلى توقف الشركات الأجنبية عن تصدير العديد من المواد الخام الداخلة في صناعة الدواء إلى مصر إلا بعد الدفع مقدمًا وعدم السماح بأي تسهيلات بنكية، ثم اضطراب السياسة الدوائية.  حيث يقوم أشخاص لا هوية لهم باستيراد المادة الخام من الهند.. ليس لديهم مندوبو دعاية فيستعملون مندوبي الشركات الأخرى، وليست لديهم مصانع تعبئة فيعبئون الدواء في مصانع أخرى.. هؤلاء لا يعنيهم سوى الربح، لذا يغرقون السوق بألف نوع من نفس العقار طالما هو رخيص وربحه مضمون. كان من التفسيرات أن الانفلات الأمني جعل المصانع تعمل وردية واحدة بدلًا من ثلاث ورديات نتيجة الانفلات الأمني، لكن المفترض أن هذا السبب قد زال.

ثمة نقطة أخرى؛ هي الاعتراض على جودة الدواء نفسها والإتاحة الحيوية له.  كل طبيب يعرف الفارق بين تأثير عقار الباراسيتامول المستورد من الخارج والعقار المحلي. الفارق بين المضاد الحيوي الذي يحمله عائد من السعودية في حقيبته ونفس المضاد الحيوي إذا اشتريته من الصيدلية تحت البيت.  لا أريد أن أحبط الناس بالقول إن الحياة في مصر صارت (زي الزفت)، لكنها للأسف كذلك. والتفسير دائمًا هو سياسة (بناقص واحد) هذه.