محمد الريس يكتب: مراسل بدرجة سائح.. مدينة شلاتين الحدودية

علي الرغم من كونها تسبب عدم استقرار وإجهاد مستمر بسبب كثرة التنقل بين المحافظات والأماكن إلا أنني أدين لمهنتي بالكثير من الخبرات التي اكتسبتها طوال سنوات عملي بها.. العمل في مهنة المراسل يضيف خبرات حياتية فضلا عن الخبرات الثقافية والمعرفية التي تكتسبها من زيارة الكثير من الأماكن في رحلات متكررة .

سأروي هنا وفي سلسلة من المقالات خلال الأسابيع المقبلة عن بعض الأماكن التي زرتها وما تعلق بذهني من كل رحلة منها في وصف لكل مكان زرته بغرض العمل، ابدأ برحلة لا تنسي بالنسبة لي كانت منذ ٤ سنوات توجهت فيها مع زملائي من فريق العمل من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب فعليا.. إلى مدينة شلاتين. الرحلة بدأت من القاهرة في الصباح الباكر تحركنا فيها لسلك الطريق المؤدي لمدينة الغردقة ومنها نتجه لشلاتين استمتعت بمرافقة شاطيء البحر الأحمر لنا شرقا لمدة طويلة من وقت رحلتنا ومجاورة سلاسل جبلية لطريقنا غريا ونحن نشق الطريق بسرعة باتجاه الجنوب، وعلى الرغم من أن الصحراء تمتد على المساحة الأكبر من بلادنا إلا أن لمشاهدة قمم جبالها المتعانقة وسلاسلها الممتدة من الشمال للجنوب أو العكس متعة لا ملل منها أبدا، وكان اللافت أنه كلما توغلنا جنوبا كلما صار صفاء مياه البحر باديا أكثر للعيان.

نرشح لك.. محمد الريس يكتب: التطبيع بالأقمار الصناعية

مدينة شلاتين في الصباح تضج بالحركة والحياة لكونها ملتقى التجارة الرئيسي بين مصر والسودان وتجارة الجمال هناك لها قيمتها ومقامها لأنها هي التي تأسست عليها المدينة وفقا لروايات من تحدثت معهم من سكان أو تجار في المدينة.

المتواجدون علي أرض المدينة يعيش كثير منهم فيها منذ زمن على الرغم من كونها نائية جدا فمنهم من قدم من أقرب محافظات جنوب الصعيد مثل قنا والأقصر وأسوان وأسس عملا في منطقة حجر الأساس وهي واحدة من المناطق التي تنتشر بها محلات البقالة والمطاعم وعدد من المقاهي، بالإضافة للسكان الأصليين من قبائل العبابدة والبشارية الذين يشتغلون بالتجارة في منطقة السوق القديم التي تنتشر فيها محلات العطارة وأماكن لتجارة ألبان الإبل ومقاهي شرب الجبنة وهو مشروب القهوة الرسمي في هذا السوق وتنطق بفتح الجيم والباء والنون، ولها مذاق رائع يمزج بين طعم القهوة وتأثير الزنجبيل الحارق في الفم وتحضر في غلايات فخارية تضيف لمذاقها طعامة على طعمتها، كما يمكنك أن ترى بعض من يقومون بتجهيز لحوم الضأن في السوق القديم على أحجار سوداء كالبازلت يشعلون تحت الأحجار النيران فتمتص سخونتها ويشوي عليها اللحم لكنني لم أفهم لم هذه الطريقة ولم تدفعني حتي للتجربة.

الحياة هناك تبدو بدائية جدا إلا أن الحديث مع سكان المدينة الودودين يكشف أنها حدثت بها طفرة من التطور؛ فالأكواخ الخشبية التي اعتادوا على المعيشة فيها تحولت لتصبح بيوتا مبنية بالطوب الأحمر وبأسقف خرسانية تقيهم حر الصيف وبرودة الشتاء.

مياه المنازل في المدينة تأتي من محطة لتحلية المياه لكن الأهالي لا يشربون منها وتأتي لهم من محافظات قنا وأسوان سيارات عليها خزانات تنقل لهم مياه شرب نقية من النيل يحفظونها في خزانات بلاستيكية أمام منازلهم أو محلاتهم.

قبائل العبابدة والبشارية هم السكان الأصليون تراهم يرتدون ملابس تمكنك من تمييزهم عن غيرهم لارتدائهم صديري غامق اللون فوق الجلباب الأبيض غالبا ويضعون علي أكتافهم شال ملون أو يلفونه على رؤوسهم، وإذا اختلطت بأي من البشارية لن تفهم كلامهم لو أرادو ذلك لأنهم يتكلمون لغة خاصة بهم لا يفهمها سواهم مثلها في الخصوصية مثل اللغة النوبية فهي تنطق ولا تكتب لكنها تختلف عن النوبية في مفرداتها ومعانيها حسبما فهمت من من تحدثت معهم، ويعيش معهم أفراد من قبائل يسمونهم الرشايدة ويتميزون ببياض بشرتهم المقاربة للحمرة أحيانا وهو غريب على سكان هذه المدينة المتميزين بسمارهم وحكي لي أنهم أتوا للمعيشة قديما من شبه الجزيرة العربية في هذه المنطقة واستوطنوها لهذا تختلف ألوان بشرتهم عن أهل المدينة.

في المساء تنعدم الحياة تقريبا في المدينة وتكاد لا ترى سائرا ولا راكبا لسيارة أو حتي جالسا في أي مكان ما يجبرك علي النوم باكرا تحت ضغط قلة الأنشطة المتاحة وبإلحاح من صمت البيئة حولك.

ما أدهشني ولن أنساه أبدا في شلاتين هو شط البحر الرائع المتواجد فيها ولأنني قبل زيارتي لها لم أكن أعرف أن المدينة ساحلية في الأساس وتطل علي البحر الأحمر وبها قرية للصيادين الوافدين من محافظات القناة وكنت مقتنعا أنها مدينة بنيت في قلب الصحراء، مع انبهاري بشاطئ المدينة بدأت أقضي معظم وقت فراغي بعد انتهاء العمل مع زملائي عليه حيث تشعر بمدي جمال وروعة صنع الله في الأرض في بيئة بكر كهذه تشم هواء نقيا يخمل رائحة البحر الجميلة. وعندما أتذكر بحر مدينة شلاتين أراني أقف في مياهه الضحلة في أوله النقية الشفافة وأرى الرمال والشعاب المرجانية وأحيانا الأسماك أسفل سطح المياه في حرية لا تخترقها صنارة صيد ولا شبكة ولا تلوث بيئتها قمامة البشر وللغروب عندما تراه من قلب المياه روعة تسحر العقول بجمال الالوان التي يضفيها علي المياه والصحراء والمباني البعيدة.

تعلقت بهدوء المدينة الفقيرة ذات المقومات الاقتصادية الكبيرة وفي نهاية الرحلة غادرت وأنا أحلم برؤية شلاتين مركزا كبيرا للتبادل التجاري ومنفذا اقتصاديا للبضائع المصرية يدخلها إلى قلب إفريقيا و منتجع ومشتي قريب من كل أهل الجنوب فأتمني أن أرى هذا في حياتي..