صبري موسى.. الحكيم المهاجر بعد "فساد الأمكنة"

ميلاد فليفل

“اكتب يا هيبا فمن يكتب لن يموت”.. بهذه النصيحة توجه عزازيل -المعبر عن الصوت الداخلي للإنسان- بنصيحة إلى الراهب المصري “هيبا”، يحرضه فيها علي الكتابة مدعيا حكمته الخالدة “من يكتب لن يموت”، فمنذ ان اخترع الانسان الكتابة والتسجيل حتي بدت مهنة مقدسة، أجلَّتها كل الحضارات السالفة، وكل الأمم الراغبة في التقدم والحريصة عليه.

نرشح لك: صبري موسى..رحل بعد أن كشف فساد الأمكنة

بالرغم مما أصاب كاتب العصر الحديث من تجاهل معيب، وإنكار مخجل، مرض صبري موسى فلم ينتبه إلى مرضه أحد، وتوفاه الله فلم يذكره إعلام ولا مثقفون، واكتفى البعض بالترحم وأخرون ببعض العبارات الموجزة القصيرة، وغرق الكل بعدها في الصمت المهين، رحل موسى الذي ترك في الأدب العربي أثرًا ما كان من الممكن أن يوجد بدونه، رحل عنا بهدوء العظماء وزهد الاولياء والناسكين، دون صخب أو ضجيج.. تمامًا كما عاش زاهدًا في المناصب عازفًا عن التمجيد،.

أديب عملاق سجل أدبًا تهتدي به أجيال بعد أجيال، لكل من طلب الحكمة واستلذ معرفة الأدب، وأبدع واحدة من علامات الأدب العربي وهي فساد الأمكنة، والتي تمثل في نظري ركض الانسان الدائم تجاه المعرفة وطلبه المستمر لنيل الحكمة، تبدأ القصة على غير عادة الأدب العربي الذي اقتصر فنه علي المدينة والقرية بصورها وأشكالها المختلفة، يذهب موسى إلى الصحراء ليدب فيها الحياة، يصور شكلا غير نمطيًا أو مألوفًا لكثير من القراء، حياة الصحراء باتزانها وجديتها، طبيعة الرمال بخشونتها وصلابة صخورها، راصدًا حياة أهلها وعاداتهم، يضفي لغة الحياة علي اصفرار الصحراء وجدبها، فجأة تستهل الرواية بالحديث عن نيكولا يبكي حظه العاثر وحياته المأساوية.

فجأة بدون مقدمات تجد نيكولا يبكي في عمق الصحراء، وكأنه قد هبط لتوه من السماء ليتحد بالرمال والصحراء، محققًا أمنيته العظمي، نيكولا المسمى علي اسم قديس أوروبي، الهارب من قبضه زوجه بحثًا عن الحرية، بلا أي انتماء يربطه لأي وطن، ولا حنين يكبله بالذكريات، فيجد ضالته في عمق صحراء الشرقية ودهاليزها ويتمنى أن يتحد هناك بالطبيعة، فيصبح كصخور الصحراء، وتبدأ بعدها مأساته العظمى، حينما يطلب الملك ابنته البكر تصاحبه في رحلة صيد، يعرف بالطبع ما يمكن أن يصيب براءة طفلته في رحلة كهذه.

ومن دون أن يملك حق الرفض يستجيب لنزوة الملك ويسلمه ابنته طفلة بريئة تعود بعدها محملة ببذرة الاثم، طفل ظل يؤرقه صوته ويجسد أمامه ضعفه وجبنه، يكرر الأب الذنب العظيم حينما يضاجع ابنته في غير وعيه في مشهد هنا أقرب إلى أسطورة أوديب، فينبت إثمه لحمًا ودمًا، عارًا وذنبًا، متجسدًا في صورة طفل، تطارده صراخاته ويصم آذانه عن السمع، ابن ثمرة لقاء الأب والملك مع طفلة بريئة حكم عليها القدر بالدنس.

يؤرق الذنب الأب فيدفعه إلى أن يتخلص من الطفل ويهرب إلى أحد الكهوف، مستسلمًا للعقاب القاسي الذي فرضه على نفسه عله يتطهر من ذنبه، تموت الابنة وطفلها من دون ذنب تقترفه، وتختتم قصة عميقة مليئة بالحزن والشجن، بعدما تفوق مبدعها في نحت معالمها وعالمها الخصب الفريد، ويرحل صاحبها فجر الخميس تاركًا وراءه “فساد الأمكنة” دليلاً حيًا وراسخًا بأن من يكتب لن يموت.