رشا سري تتذكر: بين "شنودة" و"أبو لهب"

ماذا تفعل عندما تصحي الصبح وتكون كسلان ولكن عندك شيفت نشرة أخبار تبدأ في الثالثة عصراً؟ تكلم زميلك في الشغل وتقول له يسبق هو وأنت حتحصله.

ده اللي حدث تماماً صباح يوم الثلاثاء ١١ سبتمبر ٢٠٠١ كلمت زميلتي وصديقتي المذيعة هند فراج بنت المرحوم الإعلامي الكبير أحمد فراج (مقدم برنامج نور علي نور)، وقلت لها أنا هتأخر شوية وهي طبعاً كالعادة وافقت. وقبل نزولي من العربية عند مبني ماسبيرو كلمني رئيس التحرير صارخاً: ” انتي فين؟ فيه طيارة خبطت برج التجارة العالمي في نيويورك ورئيس القناة بيسأل فين مذيع النشرة الثاني؟” قلتله: “أنا طالعه أهو” وقفلت بس تأكدت إنه مجنون بسبب ما قاله. وأثناء طلوعي لقناة النيل الدولية لاحظت دربكة في أروقة ماسبيرو ودخلت علي الاستوديو مباشرة لأشهد منظر الطائرة الثانية والذهول هو سيد الموقف من الجميع وصالة التحرير زي ما يكون قام فيها زلزال.

ولأول وآخر مرة خلال صداقة عمرها سنوات طويلة أسمع صوت هند فراج معاتباً وحاداً: “كدة يا رشا تعملي في كدة؟ تسيبيني في الموقف دة؟ واعتذرت مازحة: “والله ماحدش قال لي ان فيه طيار ناوي يعمل هبوط في مركز التجارة العالمي في نيويورك وقت ميعاد الشيفت بتاعتنا. حظي إن اليوم الوحيد اللي اتأخر فيه الدنيا تنقلب” وتوالت التغطية الإخبارية علي الهواء لنشهد جميعاً واحداً من أهم الأحداث التي غيرت مصير العالم كله خلال الـ ١٦ سنة الماضية.

وبعدها بدأ الربط لأول مرة بين الإسلام والإرهاب واجتمع بنا رئيس القناة موجهاً تعليماته بالتغطية المكثفة من لقاءات مع الشخصيات العامة والمواطنين لرفض الربط بين الاثنين لأننا قناة الدولة الرسمية الناطقة باللغة الإنجليزية ويتابعنا الكثير من دول العالم. واقترحت أن ننزل عند أحد الجوامع وقت صلاة الجمعة ونلتقي بالمصلين ونستطلع آرائهم لكي نُظهر رأي المتدينين الذين يدينوا الإرهاب ويوضحوا صورة المواطن المسلم العادي.

واخترت جامع الصديق بمصر الجديدة لسببين: الأول إنه قريب من منزلي والثاني أنه من المعروف عن هذا الجامع في هذا الوقت التشدد ووجود الكثير من الملتحين أصحاب الجلاليب البيضاء ويأتي له الكثير من المريدين.

وبعد عشرة أيام من أحداث سبتمبر ووقت صلاة الجمعة نزلت أنا وفريق العمل في محيط الجامع وبدأنا التسجيل مع العديد من المصلين أثناء توجههم لحضور خطبة الجمعة وكانوا مرحبين جداً بالفكرة ومتحمسين للتسجيل معنا. وكنا نريد إذاعة هذا التقرير بعد صلاة الظهر ليكون توقيته مضبوط. وفجأة ظهر لنا أبو لهب صارخاً فينا: ” أنا الشيخ فلان الفلاني، غادروا مسجدي فوراً” وعبثاً حاولت التفاهم معه وتوضيح رسالتنا وأننا التلفزيون المصري وأطلعته علي كارنيهات ماسبيرو وهو علي نغمة واحدة: “غادروا مسجدي فوراً.. غادروا مسجدي فوراً انكم تعطلون الصلاة”. ولأني أتمتع ببرود أعصاب شديد فلم أنفعل وقررت تجاهله تماماً قائلةً: “علي فكرة احنا مش في مسجدك احنا في الشارع وعلي العموم المساجد مساجد الله وليس الأشخاص. والصلاة لم تبدأ بعد وياريت حضرتك تروح تلحق الخطبة بدل ما انت سايبها وقاعد تجاهد معانا هنا”.

ولم يهدأ واستمر في صراخه وتجمهر أبناء وأتباع أبو لهب حولنا وكانت زيطة من الجلاليب البيضاء وشعرت بالخوف ولكني أصريت علي عدم مغادرة الشارع المحيط بالمسجد وأننا هنعمل التقرير يعني هنعمل التقرير (زي هتنزلي البدروم يعني هتنزلي البدروم) ولكن لم نستطع التسجيل بسبب صوته الجهوري الذي كان برويه مزعج لأي حوار.

وفجأة ظهر شاب يقول بهدوء: “اتفضلي معانا يا أستاذة انا فارش منصة كتب دينية هنا علي الناحية التانية من الشارع فممكن تكون خلفية جيدة للقاءات”، واستعجبت لحسه الإخراجي وحسن تعاونه معنا وسط أعوان أبو لهب. وندهت علي الفني المتواجد معي في الأوردر وهو شاب جميل ومجتهد قائلةً: “يا شنودة، هات الكاميرا هناك في الناحية التانية من الشارع حنصور هناك”.

وإذ بشنودة يعاتبني صارخاً ومستعطفاً: ليه كدة يا أستاذة؟ أنا عملت فيكي إيه؟؟” وأدركت احساسه بالخطر علي نفسه وسط أعوان أبو لهب الذين اعتبروا تعطيل التسجيل نوع من أنواع الجهاد ثم يكتشفوا أن من بيننا مسيحيين فيتقلب الموضوع كأننا نقوم بحملة صليبية علي المصلين وشارع الجامع. فاستدركت كلامي سريعاً وندهت علي شنودة: ” يلا يا محمد بلاش عطلة” وفي ثواني كانت الكاميرا وشنودة علي الجهة الثانية من الشارع بعيداً عن أبو لهب وأعوانه.

المضحك في الموضوع ان زعبلة القلة رجع تاني وحصلنا بعد قليل عند مكان التسجيل. فقلت له: “نعم يا شيخنا، فيه حاجة تاني” وإذ بي أري ابتسامة ساحرة من أبو لهب وهو يقدم لي ابنه قائلاً: “ده فلان ابني، يا ريت تسجلوا معاه”!

لن أنسي نظرة الرعب والقلق من شنودة في هذا اليوم وأدركت معني الإحساس بالخوف بسبب دينك وسط متشددين ومُغيبين وما زلت أشفق علي شنودة كلما تذكرت هذا اليوم. وما زلت استنكر تحول أبو لهب من تمثيله الغيرة علي الإسلام وخوفه أننا نضر بسمعة الدين من خلال تسجيلاتنا وجهاده في سبيل مغادرتنا وسط أتباعه المُغيبين وبين استجدائه للتسجيل مع ابنه بعيدا عن محيط الجامع وبعيداً عن أتباعه وأعوانه.

المهم اني وافقت علي إجراء الحوار مع ابنه وندهت تاني علي شنودة لكي يضبط الكاميرا ولكن هذه المرة بصوت عالي وجهوري: “يا شنوووووووددددة” ولكن هذه المرة ضحك لي شنودة ضحكة جميلة لا أنساها وأبو لهب لم ينطق.