نوران عاطف تكتب: إلى أبي.. أو عنه

(1)

الثلاثاء 8 فبراير 2011

الخامسة مساءً

زحام شديد في الميادين العامة وفراغ بالمناطق السكنية؛ فضّل الجميع إما الاعتصام بالميدان حتى رحيل الرئيس الحالي أو ملازمة المنازل دفاعاً عن ساكنيها. الحركة متوترة ومع ذلك أبي وأمي بالخارج، كل في عمله. مكالمة مفاجئة تخبرنا – أنا وأختي- بدخول أبي المستشفى في حالة متماسكة لكن لشعوره بالتعب. لم يقبل من قبل حتى الذهاب للطبيب! نذهب الآن؟ ننتظر؟ الحظر؟ تتضارب الأفكار، لكن تأتي المكالمة سريعاً لحسم الموقف، “البقية في حياتكوا”.

 

(2)

أخبرني أبي في الطفولة عن غرامه بالمغامرين الخمسة، وجدت معظم السلسلة ببيت جدي، قرأتها حتى ملّتنى أوراقها. سافر الولايات المتحدة ما يقرب من أربعة أعوام، لم أتمن فيهن شيئا سوى عودته. حتى عند شرائي “بونبوني” يحقق الأمنيات، كانت تلك هي أمنيتي. يحدثنا من غربته ليخبرنا عن “شريط منير الجديد” ويوصي بالاهتمام بدروس الموسيقى؛ يطلب تسجيلا صوتيا لآخر ما تعلمناه، نرسله مع صديق عائد.

عاد أبي مع نهاية دراستي بالمرحلة الابتدائية بعد هجمات سبتمبر؛ يتحدث عن الفن والسياسة وعرب أمريكا، وأصدقائه والأماكن التي أحبها. يطلب منا الجلوس على الأرض ويأتي بأطلس ليوضح لنا أين نحن من العالم. أقرأ وأقرأ حتى يمكنني فتح نقاش معه، أخبره عن ولعي بـ”الحكيم” واطلاعي على كتب مصطفى محمود وعدم تفضيلي لأنيس منصور وإحسان عبد القدوس. دائماً يملك ردا وذكرى على كل كتاب أو اسم أقترح النقاش حوله، يتابع إبراهيم عيسى – الذي للغرابة يشبهه في الشكل والأسلوب – في برنامج سياسي ثم ديني يتعرض بسببه للمسائلة القانونية ثم يعود مرة أخرى للشاشات. ينتظره ويؤكد على أهمية الاستماع لكل كلمة من كلامه، وأن السلطات لم تعتبر أن هناك دينيا وسياسيا؛ “كله سياسي”.

تظهر فاتن حمامة في لقاء مطول بـ”ساعة صفا”، يجري التجهيزات اللازمة للتسجيل: “الست دي كلامها أهم من الوثائق المكتوبة”. أشاهد فقط لأجله، ولأجله أيضاً شاهدت “هيكل”، وأكدت له أني استوعبت كل كلمة من كلامه. يحكي عن “200 يوم حول العالم”، أحاول القراءة لكن أملّه سريعاً وأخبره بذلك، يوضح “دلوقتي فيه تيلفزيون وإنترنت، زمان ده كان شباكنا على الدنيا”. تعلم أبي بذكاء فائق التعامل مع الكمبيوتر والإنترنت وفيما بعد وسائل التواصل الاجتماعي.

جاء “النت” ومعه كنوزه، طلب منا البحث عن “شجر اللمون الأصلية باللحن القديم”، ثم عرّفنا على أحمد منيب ونسخته الأصلية منها. أخبرنا بعدها عن فؤاد عبد المجيد الذي فاجأ الجميع ثم اختفى كالحلم. “أول ما شفناه قلنا إيه اللي طالع ببدلة ودقن ده وهيغني!”، يندمج تماماً بمجرد تشغيل “آه لقلبي والقمر”، ينتظره حتى يقول “والليل يلعب بالجوى لعب الأنامل بالوتر” حتى يحرك يده في حركة عازفة من شدة الطرب. ننتقل بعدها لحلم شباب السبعينات؛ “في ماشية جون ترافولتا وتضييقة البنطلون”، فيحثنا على سماع ABBA و bee gees. يتحدث عن “خان” و”الطيب” كأنهم جزء من تاريخه، يؤكد أن ذلك العمل لخيري بشارة من إضاءته، يلفت نظرى لبراعة تفاصيل الإخراج حتى في أفلام فطين عبد الوهاب الكوميدية البسيطة: “بصي إزاي اللقطة دي جميلة؟ بصي المكياج في فيلم الهروب؟ بالظبط كان كل الحكومة شكلهم كده وقتها، سامعة الموسيقى التصويرية؟”.

لم يكن أبي مصابا بنوستالجيا حادة ولا بسيطة، فقط احترم الجميل لجماله وقدّره، أحب كل التجارب الشبابية، أًعجب بظهور العسيلي المطرب والعسيلي المذيع، استمع لشيرين وإليسا، انتظر معنا ألبوم عمرو دياب الجديد، لحق بـ “احلم معايا” وأول ظهور لحمزة نمرة بلون جديد، تحمس للصيحة الشبابية القادمة “الأندرجراوند”، انبهر بوقوف الشباب بالميادين، حكى تفصيلاً عن ذكائهم في الدفاع عن أنفسهم خلال موقعة الجمل رغم عدم وجوده بالميدان، أكد لنا أن الثورة ليست أيام فقط، بل مرحلة، وتوفي قبل التنحي وقبل أن يشهد بداية تلك المرحلة.

 

(3)

لم أصب بأي إنكار رغم المفاجأة؛ تحول أبي في لحظة واحدة من جزء من حياتنا لذكرى. لا أستطيع تحديد الخط الفاصل ووصفه، لا أعلم حتى الآن كيف استوعبت وصدقت وقررت ممارسة أحزاني بكل قوتي، كأني كنت على استعداد لاستقبال الخبر. ارتفع ضغط الدم فجأة ورغم دخوله المستشفى مشياً على قدميه، إلا أن الأطباء أكدوا تأخر الحالة، وأن كل محاولات خفض الضغط جاءت بعد فوات الأوان. لم أره بعد وفاته، لم أحضر الجنازة، لم أندم على ذلك، ظلت الصورة الأخيرة له هي ابتسامة و”صباح الخير” ووصية إني “ما أطولش في النوم وأفطر كويس قبل درس الفيزيا”. اليوم هو عيد ميلاده التاسع والخمسون، والسابع بدونه؛ مات أبي وترك روحه وأفكاره وأحياناً ملامحه وتصرفاته فينا وفي كل من وما شاركناه حبه.