وليد خيري يكتب: أخضر يابس.. رحلة البحث عن "دكر"

أكثر جملة ألحت علي بشدة بعد مشاهدة فيلم أخضر يابس هي “كيف تصنع فيلما غير عاديا من حياة عادية”.. هذا ما نجح فيه بامتياز المخرج العبقري محمد حماد، الذي ينقلنا عبر رحلة شعورية متفجرة داخل نفسية البطلة “إيمان”، التي ترضخ لتقاليد شرقية مثل الحلويات الشرقية التي تبيعها في المحل الذي تعمل به. تقاليد بالية تقول أن المرأة لا تكتمل سوى برجل حتى لو كان مجرد ديكور ليكتمل به البرواز، فإيمان التي تعيش وحيدة مع شقيقتها الصغرى نهى تبحث عن حضور ذكوري لأحد أفراد العائلة من الأعمام ليظهروا فقط في الكادر حين يأتي الخطيب المحتمل للشقيقة نهى، فلا يصح غياب “الدكر” عن هذا المشهد في حين أنه يصح غيابه التام عن حياتهم!! فلا أحد من رجال العائلة يسأل عنهم، بل يتهرب الواحد منهم تلو الآخر من مسألة حضور المناسبة، على السطح تبدو هذه قصة الفيلم “رحلة البحث عن دكر”، لكن حقيقة الفيلم هو تلك الرحلة المبطنة بالأسى للأخضر الذي يبس في حياة بطلة الفيلم. فمنذ المشهد الأول نعرف انقطاع الدورة عن إيمان وهي في منتصف الثلاثينات تقريبا وثمة اشتباه بمرض خبيث يهدد حياتها ويقطع آخر أمل لأن تكون أما، فضلا عن أنها لم تتزوج حيث نلمح بقايا قصة حب مجهضة مع ابن العم تظهر تفاصيلها في دبلة تخبئها في علبة أو في مكياج خفيف تضعه لمرة وحيدة طوال الفيلم حيث يظهر وجهها متخشبا يابسا دائما يخلو من أي تعابير ومساحيق.

ترعى إيمان أختها وصبارها وترستها (السلحفاة المائية) في صبر وصمت بطيء ونبرة صوت بركانية خاملة لكن تحت سطح البركان يوجد حمم نفسية وأوجاع تكاد تتفجر في وجه المشاهدين، ومع ذلك حافظت البطلة بتوجيه المخرج على نبرة صوت غير انفعالية رغم أن المواقف كلها تشي بالانفجار، ومع ذلك لا نبرة زاعقة إلا في مشهد وحيد حين وجدت فوطة أختها الصحية أمامها ملقاة أمام عينيها في الحمام وكأنها تذكرها بمأساتها وبحياتها التي أصبحت محصورة بين قضيبين كقضبان الترام الذي تستقله يوميا للعمل. الترام الذي يسير ببطء وتؤدة وسحب من رصيد أيامها دون أن تدري.. لا صوت يعلو في الفيلم فوق صوت الترام والمترو تقريبا هما صوت موسيقى الفيلم حيث يتخلى المخرج بإرادته عن موسيقى تصويرية للفيلم ولا يبقى لنا سوى هذه الأصوات أو صوت هواء النوافذ أو مسح الأرضيات. الفيلم يتخلى تقريبا عن كل ما اصطلح عليه بجماليات من موسيقى تصويرية وإضاءة لافتة وألوان مبهجة ليتحول هو في حد ذاته لجمال الجسارة في طرح سينما بدون محسنات لدرجة أنه يتخلى على الإنتاج بمعناه البطراريكي.

أخضر يابس فيلم يحكي قصة فتاتين لذلك هو يستخدم أسلوب المرأة في إدراك التفاصيل، الفيلم استعار وعي المرأة بالحياة عبر بالمنمات والتفاصيل الصغيرة ليصنع وجعا كبيرا وفيلما كبيرا، المدهش أن مؤلف ومخرج الفيلم رجل استطاع أن يلتقط تفاصيل نسائية بامتياز وهذا ليس جديد على محمد حماد؛ فقد كتب فيلما قصيرا من قبل اسمه “أحمر باهت” يدور حول تفصيلة نسائية صغيرة جدا يصنع منها فيلما في منتهى العذوبة.

بعد عودة إيمان قرب نهاية الفيلم من عند الطبيب الذي قضى على آخر أمل لها تنقلب ترستها على ظهرها وتغلق إيمان نوافذ شباكها وباب غرفتها وكأن آخر باب للأمل أغلق وذلك بعد أن فعلت فعلتها الصارخة حتى الجنون والتي لن أقولها حتى لا أفسد الفيلم على من ينتوون حضوره.

أجمل ما في تجربة ذلك الفيلم أنه فقط لم ينتصر على تابوهات المجتمع وإنما انتصر أيضا على تابوهات السينما نفسها وأولها الإنتاج إذ يصح أن نقول بكل أريحية “كيف تنتج فيلم بدون منتج؟!”

أخضر يابس فيلم “العلاقات البايشة” كما جاء في أحد جمل الحوار بين إيمان وأختها نهى -البطلتان وجميع الممثلين أدوا أدوارهم بشكل رائع- حين سألتها لماذا لم تتعلق الستائر على الحيطان فأجابت “عشان كلها بايشة”.