محمود أبوبكر يكتب: فيروز لا تصنع "صباحي"

لسبب ما، ربما ذو علاقة بتقدم في العمر، أو تأخر في عقارب الذاكرة، لم أعد أضبط صباحي على صوت فيروز، لم يعد صوتها مرادفاً لـ خيط الفجر وأخبار الجريدة، ورائحة الكرواسون، بل لم أعد اهتم تماماً بالأسطوانات المصطفة على دفة الدولاب المهمل، انهض متثائبا كالعادة، أتحسس “موبايلي” ألاحظ ورود بعض الرسائل على “الواتس أب.. أهمل تلك القادمة من أصدقاء مسكونين بهواجس الموت وقطار القبر و”الجمعات المباركة”، وأهرع نحو رسائلا أخرى قد تضيف حياةً ليومي الوليد.. ألج نحو الفيس بوك، والانستغرام ثم اجر جسدي نحو الحمام.. هكذا أرتب مبتدأ يومي ولا يهم إن كنت سأتعثر بفيروز في المقهى المجاور حيث أحتسي قهوتي أم سأتجاوز الصباح دون نغم يستحق الهضم مرارا.

نادل المقهى ولسبب ما، أضحى يربط حضوري بإسطوانة تصدح بأغاني محمد منير القديمة، ذات مرة سألته عن السبب، قال لي أنك تتفاعل مع أغنياته وبصوت عال، ووجهك مختفيا خلف “الأيباد” فعرفت أنك تحبه كثيرا، وتحديدا أغانيه القديمة، ثم أكد لي أنه أيضا يفضل الأغاني القديمة لمنير قائلا: “قديم الكينج مالوش حل”، لم تزعجني الملاحظة لكنني أصبحت مهتما بضبط صوتي بما يليق بمن يتهيأ لتوديع عقده الثالث.

لسبب ما لم أعد أرى “أم محمد” على رصيف الشارع، حيث تفرش بضاعتها الرخيصة، ولا تكف أو تمل عن دعوتي للشراء، لم انتبه كم مضى من الوقت على غيابها.. ذات مرة قررت أن اسأل “السايس” المجاور لـ “بسطتها”، لكن تذكرت أني كنت شاهدا على عدد من اشتباكهما بالأيدي وبالعبارات البذيئة، فخشيت أن ينالني بعضا منها، في حال سألت.. كان “السايس” يلاحظ نظراتي حول موقع “أم محمد” وعندما عدلت عن الفكرة، وبدأت بالانسحاب، سألني: بتسأل على “أم محمد ولا أيه ياباشا؟!”، أومأت برأسي مترددًا.. رد : ألف رحمة ونور عليها، اتوفت من يجي شهر.. الله يرحمها كانت ست طيبة وجدعة”!، عزيته ورتبت على كتفه كما يليق بمن فقد عزيزًا.. وذهبت أجرجر قدمي وعباراته ترن في أذناي.

لسبب ما لم أعد مواظبا على مشاهدة نشرات الاخبار ليلا، فريما أصابني ثمة أحباط، وخيبات أمل كثيرة، سيما بعد اللحظة الأبرز حين اعتقدت في شتاء عام 2011، أن ثمة ربيعاً في الأفق، قد يحرر الأصوات، ويصنع فجرا جديداً، تلك الخيبات التي لونت شاشات التلفاز لاحقا بلون القاني الفاقع .. لونٌ يحاكي ألوان كرفتات المذيعين المتأنقين الذين يزفون إلينا أعداد القتلي في بورصة الدم -خلال اليوم- دون أن يفقدوا ابتساماتهم، وبشراهم باستعادة “الثوار” لموقعا مهما في الخارطة الخراب.

في صالة الرياضة يجد “المدرب” متعة بالغة في كشف تلصصه على صفحتي على فيس بوك، وهو يبلغني أنني سهرت بالأمس في “خان الخليلي” ودخنت الشيشة، يقول ذلك بفرحة من اكتشف سراً، و ينتظر أن يرى الدهشة على وجهي، ثم يضيف أن “التدريبات” اليوم ستكون مضاعفة عقاباً على ذلك، لكنه سرعان ما ينسى الأمر بمجرد ظهور “مزة جميلة” قادمة بغنج من تدلف على ليلة حمراء ! يتركني وشأني ليعتني بتلك الشابة التي ستنسى أمره بمجرد مرور ساعة التدريب، وتذهب حتى دون أن تهديه كلمة شكر أو وداع.. لكنه سيكرر الأمر معي مرارا دون شعور مستحق بالخيبة أو الملل.