عبد الرحمن جاسم يكتب: حينما يصبح الفن تطبيعًا

قبل أيام بدأ الحديث وبشدة حول موضوع المخرج اللبناني زياد الدويري وفيلمه الجديد “الصفعة”(أو القضية رقم 23 بحسب تسميتيه الإنكليزية والعربية). لم يكن الحديث حول فيلمه فحسب، بل أيضاً كان حول أمرٍ إشكاليٍ مرتبطٍ به وبشكل شخصي. كان الدويري قد زار وأقام في فلسطين المحتلة (أي الكيان العبري) لأكثر من 11 شهراً، صنع فيلماً هناك، مع ممثلين ومصورين وعمال اسرائيليين وصهاينة.

كان الأمرُ صدمةً بالفعل، وهي بالمناسبة اسم الفيلم الذي أنتجه هناك؛ كان الفيلم بحسب الناقد بيار أبي صعب يقدّم لصورة العربي “الخانع” والموافق للكيان العبري وأفكاره. إنها حكاية الطبيب العامل في مستشفى من مستشفيات الاحتلال والذي يكتشف فجأة بأن زوجته قد قامت بعملية استشهادية لأجل فلسطين، فيصاب بالغضب والحزن الشديدين كيف أنّها قامت بذلك وهو عكس ما يؤمن به من حيث أنه “طبيب” ينقذ الناس على إختلاف أجناسهم وأنواعهم(وتحديداً المقصود هنا بأنواعهم أي الصهاينة والعرب، الذين هم سواسية ومتساوون بالنسبة لهذا الطبيب).

طبعاً يسخّف الفيلم كل الصراع العربي الصهيوني في محاولة لحشره داخل ثقب إبرة وتجربةٍ شخصية خاصة من جميع النواحي. الدويري يرفض اليوم الاعتراف نهائياً بأن زيارته واقامته في دولة الاحتلال هي نوعٌ من التطبيع الثقافي التي يحاسب عليها القانون اللبناني، وبأنها زيارة تخدم العدو أكثر مما تخدم الشعب الفلسطيني الذي يدّعي الدفاع عنه. من جهةٍ أخرى، هو يحاول كثيراً تقديم فكرة أنه يمكن للمثقّف أن يرتكب الفظائع تحت الحجّة الشهيرة: أنا لا دخل لي بالسياسة أنا فنان، حاكموني كفنان. وهذا الأمر قد يكون مسلياً، لكنه ليس حقيقيا أبداً.

من جهةٍ أخرى وعلى الصعيد الشعبي/الثقافي والعام بدا أن المشكلة أكثر تعقيداً، إذ انقسم المجتمع الثقافي بين مؤيدٍ ومعارض، ولكن الموضوع كان أعقد مما يبدو على السطح. المشكلة قبل أي شيء في هذا الموضوع أن الآخر على الطرف الآخر: متمترس. لا يهمّه السماع، لا يهمه النقاش، وبالتأكيد لا يهمّه إن كان ما يقوله أصحاب فكرة “معارضة التطبيع مع إسرائيل” أمراً له قيمةٌ أو منطق أو حتى يقارب القانون. المهم في هذه المعركة هو ما يستطيع سحبه من بين أيديهم، المهم بالنسبة له ألا يخسر المزيد من كل شيء. لهذا فإن الدفاع أو الهجوم على سلوك الدويري ليس أكثر من حوارٍ بين طرشانٍ في مطحنةٍ صوتها يصم. لا أحد يسمع، كما لا أحد يريد النقاش. يدافع كثيرون عن سلوك زياد لا بكونه صائباً أو فنياً أو حتى حراً، بل بوصفه سلوكاً ضد “مخالفيهم/أعدائهم” في الوطن عينه. إنها نظرية “عنزة ولو طارت” لكن خبيئةٌ تحت غطاءٍ فني/ثقافي، لا أكثر ولا أقل. الأهم من هذا كله أنَّ الموضوع المطروح اليوم أبعد بكثير من نقاشٍ “خلبي” حول ما فعله الدويري. إنها نقاش ماهية كيان الإحتلال عدواً من عدمه. فلنضع الأمر أمام الضوء قليلاً: هناك كثيرون في لبنان –كما في العالم العربي- لا يرون في الصهاينة أعداءاً. وحالات التطبيع “الخجولة” –حتى اللحظة على الأقل- تحتاج “بيادقاً” من نوع الدويري. شخصٌ يتزياً بثياب “الفن” ويرمي نفسه في قلب المعركة متسلحاً برسالته الفنية. أليس التعامل مع العدو القاتل “تسهيلاً” لعمله “وتقريباً” لصورته و”أنسنته”؟ أليست هذه هي أوليات التطبيع؟ التطبيع يعني ببساطة أن تعطي قاتلك –وقاتل كل أحبتك- فرصة لتقديم وجهة نظره في القتل. أن تعطيه قوةً إقتصادية كي يقتلك أكثر. أن تمنحه الضوء الذي يحتاج كي ينمو أكثر وأكثر. أن تقبله وتتيح له مجالاً أكبر في حياتك. ما فعله الدويري شبيه بما يفعله المدافعون عنه وإن اختلفا في التسمية: هو طبّع علانية، هم ينتظرون ذلك فحسب.