أحمد عمر يكتب: حروب الأذرع الإعلامية.. رويترز وواشنطن بوست نموذجا

 

“أذرع إعلامية”.. مصطلح شهير حام المحللون والمنظرون حوله لتفسيره وتأويله وتوضيح معانيه، فيما اعترض مناصرو “حرية الإعلام” عليه، وأنه يمثل سابقة في تاريخ الإعلام، وأن مثل هذه المصطلحات تضرب هذه “الحرية” في مقتل، وتهدر دمها بلا ثمن!

 

البعض الآخر، وكاتب هذه السطور منهم، أكد أن هذه نظرية قديمة للغاية، من أيام الجاهلية! وهي ترتكز في محورها الأساسي على فكرة السيطرة على “المنابر الإعلامية” والتحكم فيها وتوجيهها نحو ما ينبغي ذكره وما لا ينبغي ذكره. لكن في الوقت نفسه ستنتهي بالحال إلى تقييد عنيف للحريات الإعلامية وتفكيك لا مثيل له لمؤسسات إعلامية تعتمد في تميزها على المصداقية وذكر الحقيقة “ولو على رقابها”..

غير أنه في ظل منطقة تعصف بها الأزمات، وتَدق فيها طبول الحرب، فإن السلاح المستخدم هو الإعلام، لا “إف 16” ولا الدبابة “تي 90 إس إم” ولا أي سلاح آخر، الإعلام وحده: أبواق الفضائيات، وصفحات الجرائد الورقية، والمواقع الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وهذه الأخيرة بلا شك من الأدوات الحديثة للإعلام. والمحارب هنا في هذه الحالة ليس جنديا مقاتلا، بل صحفيا متحذلقا، يشهر قلمه أو بالأحرى يرفع من وتيرة الكبس على لوحة مفاتيح لاب توبه، أو يصرخ على شاشة تلفاز عبر الأقمار الاصطناعية ليقول بملء فيه، إن وإن وإن وإن…..

وما أعظم هذا السلاح في الحرب الكلامية المعلنة بين الرباعية العربية (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) وقطر؛ إذ شهد هذا السلاح تطورا غير مسبوق، من حيث اعتماده على التلوين والتأويل الخاطئ للمعلومات والأخبار، والفبركة والصياغات عديمة المهنية، والاحتيال، وتزييف المعلومات والحقائق، وغيرها من الأدوات والوسائل سيئة السمعة.

صحيفة واشنطن بوست الأمريكية نشرت تقريرا “قنبلة” منذ أيام، ذكرت فيه دون استناد لأي مصدر حقيقي معلوم، أن المخابرات الأمريكية “اكتشفت” أن الإمارات تقف وراء “اختراق” وكالة الأنباء القطرية ووسائل إعلام تابعة للدوحة، دون الإفصاح عن كيفية توصل هذه المخابرات الجهنمية لذلك الاستنتاج العبقري، بل إن واشنطن بوست حاولت التنصل من هذه المزاعم، لتقول في تقريرها وعلى لسان مسؤولين- وهي مصادر مجهّلة- إنه من غير الواضح ما إذا “كانت الإمارات قامت بذلك- تقصد الاختراق- بنفسها أم أنها دفعت أموالا كي يتم اختراقه”، بحسب الترجمة العربية لوكالة رويترز. وسائل الإعلام الموالية لقطر تلقفت هذا التقرير المدهش وأطلقت مانشيتات رنانة، مفادها أن قطر تتهم الإمارات بقرصنة مواقعها لاختلاق الأزمة..

هنا نجح سلاح الإعلام في شن “أول طلعة” في المعركة، هذا إذا صح الافتراض، وإذا لم يصح، فقد وجه السلاح ذاته ضربه مضادة للأطراف التي قاطعت قطر، بزعم أنهم يختلقون الأزمات لفرض مطالبهم.

المثير في هذا الجانب، أن إعلاميين ومحللين وخبراء استراتيجيين وغيرهم كثيرين، أكدوا أن هذا جزء من حملة منظمة مدفوعة الأجر من جانب قطر كي تواجه “الرباعية”، واستشهدوا بأن قطر مالكة قناة الجزيرة “متمرسة” في مثل هذه الأفعال، فكم من تقارير استندت إليها القناة الفضائية المثيرة للجدل دائما، كانت من منطلق أنها منشورة في صحف أمريكية وغربية، التي لا تأتيها الباطل من بين يديها ولا من أي ناحية!!

ما سبق يدفع للتساؤل حول طبيعة التقارير الإخبارية التي بثتها وكالة رويترز للأنباء يوم الأربعاء 19 يوليو 2017، منها تقرير عن مصر، حول “انقلاب” حلفاء السيسي، تحت عنوان “حلفاء للسيسي ينقلبون عليه مع اقتراب الانتخابات الرئاسية”.

وينبغي هنا أن نؤصل لقاعدة صحفية وهي أن وكالات الأنباء والمنصات الإعلامية العالمية من حقها أن تتناول أي قضية كانت بالتحليل والتحقيق، لكن على الأقل وفق القواعد المهنية التي يجب أن تطبق على الجميع، سواء إعلام وطني أو أجنبي. لذلك وبالعودة إلى التقرير، يتضح أنه يفتقر إلى الكثير من المعايير الموضوعية وقواعد عدم الانحياز، بل إنه يعد نموذجا لكيفية “طبخ” تقرير صحفي يدعي فيه محرره التزام الحرفية لكنه بعيد عنها بآلاف الأميال!

هناك بعض الملاحظات على التقرير، ألخصها فيما يلي: وكالة رويترز اعتمدت في كامل تقريرها على آراء 5 مصادر فقط، ناشط سياسي يعارض عبر “تويتر”، وصحفية مغمورة، وعضو برلماني سابق، ومرشح رئاسي سابق، وباحث غربي لم تذكر الوكالة حتى أين مركز الأبحاث التابع له. فيما عدا ذلك استندت الوكالة على تعبيرات مثل “يقول العديد من”، و”عدد من”، و”حلفاء السيسي”، و”معظم سكان مصر”، و”بعض المحللين”. وهذا النوع من التقرير الذي يستند إلى التعميمات- وهي ليست خطأً في مجملها- لكنها تؤكد ثمة تواطؤ للخروج بنتيجة محددة، وهذه قاعدة يعلمها كل صحفي يعرف تماما كيف يكتب تقريرا إخباريا، بصرف النظر عن حرفيته من عدمها. وهذا يطلق عليه غياب الإسناد المصدري، فلا مصادر حقيقة أًسندت إليها هذه الأوصاف، بل هي أحكام عامة أطلقها المحرر ليصل إلى ما يريد من نتائج. التقرير خلا أيضا في معظم- إن لم يكن كل- سطوره من علامات تنصيص لكلمات هي محل اختلاف، وتمثل في عرفنا الصحفي “قيمة” ينبغي التنصل منها بهذه العلامات الصغيرة التي يستخدمها كثيرون بصورة خاطئة تماما.

تقرير آخر بثته الوكالة عن السعودية تحت عنوان: “تفاصيل انقلاب القصر في السعودية.. كيف تمت الإطاحة بولي العهد”، والتقرير من عنوانه يعكس أن القارئ سيقرأ قصة أو “حدودتة” وهذه الأخيرة لها كبار روادها وصحفييها من أول “البط البلدي” وحتى “قالي أوعى تقول لمراتي الأميرة …”.

هذا التقرير الذي كتب بطريقة السيناريو استند كذلك إلى مصادر مجهلة، وهي كالآتي: “مصدر مقرب- مصدر مطلع- مصدر سياسي- مصادر- 3 أشخاص مطلعين- مصدر عربي- مصدر على صلة- مصدر قريب- نقلا عن شاهد بالقصر الملكي). والحق أن القصة كلها مثيرة وتصلح لكي تكون عملا دراميا بامتياز، فعناصر الإنتاج كافة متوافرة؛ الإثارة، والغموض، والتحدي، والرغبة في الانتقام، والنصر، والشعور بالقوة، وغيرها، ومن يقرأ التقرير يجول بخاطره واحدة من التراجيديات العظيمة للكاتب العظيم ويليم شكسبير، “ماكبث” مثلا!

الخلاصة.. سلاح الإعلام بات مشهورا في وجه الجميع، ويخطئ من يظن أنه يمكنه محاربة الآخرين به دون أن يتلقى طعنات إعلامية أو تصيبه شظية إخبارية تحدث وقعا أشد بأسا من سقوط قنبلة نووية.