خالد منصور يكتب: أسطورة يوسف بن أيوب الشهير بصلاح الدين

المقال نشر لأول مرة في جريدة القاهرة يناير 2016

انزعج بعض الحاضرين في ندوة تأبين مناضل مصري عظيم مؤخرا عندما ذكر متحدث كيف أن الراحل كان “شديد التواضع والبساطة ولكنه نرجسي أحيانا، في منتهى الكرم ولكنه يقترض النقود وينسى أن يعيدها، لم يكن قديسا ولكننا لا نحب رموزنا وزملاءنا ورفاقنا لأنهم كاملو الأوصاف بل نحبهم بالرغم من عيوبهم.” تذكرت كلمات الرثاء هذه وأنا أقرأ كتاب عبد الرحمن عزام “صلاح الدين وإعادة إحياء المذهب السني” عن حالة الرجل الذي صار رمزا لقدرة عربية أو إسلامية على قيادة مشروع سياسي/عسكري ضخم من أجل إعلاء كلمة الدين أو الأمة.

خالد منصور

تاريخيا لم ينقطع الهوس الغربي بصلاح الدين، بينما نساه مسلمو بلاد الشام ومصر قرونا، بل إنهم لم يسمّوا الصراع الذي دام سنوات طويلة ضد الفرنجة بالحروب الصليبية حتى ترجموا هذا الاسم من الكتابات الغربية في القرن التاسع عشر. وعندما زار القيصر الألماني فيلهلم الثاني قبر صلاح الدين في عام ١٨٩٨م وجده متهدما فرممّه وبناه من رخام وأقام عليه ضريحا. وبعدها بفترة كتب الشاعر المصري أحمد شوقي قصيدة عن دمشق ذكر فيها صلاح الدين بينما نشر جورجي زيدان رواية عنه في أوائل القرن العشرين. وكانت تلك بداية اهتمام المثقفين العرب في الشام ومصر بصلاح الدين مع ظهور موجات النضال الوطني ضد الاستعمار. وقُدم صلاح الدين، الكردي السني المسلم، بصفته قائدا عربيا، رغم أن القومية العربية في زمانه لم تكن أيديولوجية سياسية تذكر.

عاش صلاح الدين صباه في دمشق حيث سيطرت عدة بيوت مالكة وامراء أتراك وأكراد وعرب وفرنجة على كبرى المدن في العراق وبلاد الشام وفلسطين. وقع الأمراء المسيطرون على مدن حلب ودمشق والموصل وغيرها في بلاد الشام بين خلافة عباسية سنية شديدة الضعف في الشرق وخلافة فاطمية شيعية مترنحة في الغرب وإمارات الفرنجة في شرق المتوسط. وتقاربت مصالح هؤلاء الأمراء الطامحين مع رغبات فقهاء وعلماء السنة الوسطيين إسلاميا في الفقه والعقيدة، وفي مقدمتهم عالم الدين أبو حامد الغزالي، مؤلف “إحياء علوم الدين”، الذي ولد وتلقى العلم في فارس. وهكذا ظهر تحالف مهم للغاية لعب فيه غير العرب دورا محوريا وبرز فيه المذهب السني سلاحا في مواجهة الشيعة والفرنجة. وإضافة للغزالي، كان بين هؤلاء الرجال نظام الملك، الوزير الفارسي للأتراك السلاجقة، الذي استن بناء المدارس الدينية واستخدامها لتخريج كتبة وموظفي وقضاة ومؤرخي الدولة. وأثر نظام الملك على تفكير صلاح الدين وصار بين كبار مساعديه اثنان من تلاميذ مدارس نظام الملك وهما عماد الدين الأصفهاني، المولود في فارس، وبهاء الدين بن شداد القاضي. كان الإحياء السني واعتماد المقاربة الأشعرية في العقيدة في صلب مشروع صلاح الدين من الناحية الدينية وتلك هي مقولة عزام الرئيسية في كتابه الذي صدرت ترجمته العربية في عام ٢٠١٢، بعد ثلاث سنوات من صدور الأصل الانجليزي. ويفرد عزام فصولا للحديث عن المؤامرات والصراعات السياسية والعسكرية بين الأمراء والخلفاء ووزرائهم، صراعات جرى فيها استعمال الدين والمذهب والجهاد والعرقية والمناطقية كأدوات للحشد وجمع التأييد والتحميس للأتباع والعامة.

في وسط هذا كله نما وتعلم صلاح الدين الذي كان أبوه أيوب وعمه شيركوه، القادمان من منطقة كردية في القوقاز، يعملان لدى الأمير التركي زنكي. وكان للسلاجقة والساسانيين والروم والفرنجة تأثير بالغ على المنطقة يفوق عموما تأثير العرب، ولم ينتم للعربية حقا كعرق أو ثقافة سوى بعض القضاة والمؤرخين والكتبة وعدد قليل من صغار الأمراء. كان الخليفة العباسي حنبليا والسلطان السلجوقي حنفيا بينما الوزير المسيطر والمهم نظام الملك شافعيا. وتعارك تلامذة وأتباع أصحاب المذاهب المختلفة في شوارع بغداد والمدن الأخرى لتسوية الخلافات الفقهية عن طريق البلطجة والعنف. وعندما علم القاضي الشافعي منصور أبو المعالي الجيلي أن رجلا فقد حماره في حي غالبية أهله من الحنابلة في بغداد قضى بأن يذهب الرجل إلى ذلك الحي ويأخذ ما يشاء “لأنه لن يجد هناك شيئا أعلى قيمة من حماره.” وبرز دور نظام الملك الذي دعم الغزالي في وضع أسس الإحياء السني (المذهب الشافعي في الفقه والتشريع، والأشعرية في العقيدة، والصوفية في الممارسات الروحانية). لم يكن بناء المدارس النظامية (وهو تقليد نشره صلاح الدين بعد ذلك) مجرد جزء من مشروع الإحياء السني لأسباب مذهبية فحسب ردا على المدارس الشيعية الكبرى مثل الأزهر في مصر آنذاك، بل نبع أيضا من اعتبارات سياسية منها تأهيل وتفريخ موظفين لجهاز الدولة المتنامي ينتمون لنفس الثقافة بدلا من الاعتماد المفرط على المسيحيين والساسانيين الفرس.

لعب صلاح الدين دورا متزايد الأهمية في الصراعات السياسية الأقليمية وجاءت حملته الأولى إلى مصر نيابة عن نور الدين ابن زنكي. كانت مصر مهمة من ناحية الثروة ومن يسيطر عليها يمتلك عناصر قوة متعددة تجاه أعدائه، وكانت مهمة من الناحية الدينية لان سيطرة الصليبيين الفرنجة المحتملة عليها ستقطع تواصل العالم الإسلامى كما أنها قد تكون باب تهديد عبر البحر الأحمر لبلاد الحجاز والمقدسات الإسلامية.

وبعد وفاة نور الدين خاض صلاح الدين معارك حربية مع أبناء ولى نعمته وعقد معاهدات مؤقتة مع ريمون، أمير طرابلس الصليبي، من أجل التفرغ لهذه المعارك. وتبادل صلاح الدين ومنافسوه من ورثة زنكى والفرنجة والبيزنطيين التحالفات مع بعضهم البعض ونقضها ضد بعضهم البعض ولكن صلاح الدين كان يحرز نجاحات عسكرية وسياسية متتالية مغيرا تحالفاته كلما تماشى هذا مع خططه التي تغيرت بدورها بناء على تحالفات الآخرين. وفي السنوات السابقة على مواجهاته الأخيرة مع الصليبيين التي انتهت بتحطيم إمارة بيت المقدس الصليبية حارب صلاح الدين جيوش المسلمين في الموصل وحلب وغيرها أكثر بكثير مما حارب جيوش الفرنجة، مدعيا أحيانا (وهو ادعاء لم يكن غير صحيح كلية) أنه يفعل هذا لتأمين القوات اللازمة للزحف على الفرنجة، لكن العامة في حلب أسموه “الظالم الجاحد” لأنهم تحت تأثير دعاية آل زنكى اعتقدوا (وكان لديهم بعض الحق) أنه يريد اغتصاب السلطة من الصالح بن نور الدين، وانتقده مستشاروه وأبرزهم القاضي الفاضل وانتهزوا فرصة مرض شديد ألم به وكاد يقتله وانتزعوا منه وعدا بأنه لن يحارب إمارات مسلمة وسيركز على قتال الفرنجة إذا قُيض له الشفاء. وقد كان فبعد سنة من شفائه نجح في الاستيلاء على بيت المقدس بعد موقعة حطين.

ولا يقلل من انتصار صلاح الدين المدوي أن الصليبيين، في أقل من عامين، تمكنوا من استعادة السيطرة على معظم مدن ساحل المتوسط، ولم يستطع صلاح الدين الرد على تهديد حقيقي من جيوش الصليبيين بقيادة الملك ريتشارد قلب الأسد سوى بمزيج من العناد والصبر والحظ، والتوفيق الإلهي. ولعل نصره بعقد معاهدة سلام مع ريتشارد في سبتمبر ١١٩٢م يفوق في الأهمية والانجاز نصره العسكري في حطين قبل ذلك بخمس سنوات.

كان صلاح الدين رجل سياسة بامتياز ولكنه كان أيضا مدفوعا في تفكيره وقراراته بشعوره الديني القوى وظهر هذا في تقريب واستشارة عدد من كبار شيوخ الدين وبناء المدارس الدينية واحترام رأى القضاة بل والتنازل أحيانا في وجه ضغوط بعض المشايخ المتشددين. ورغم انه أوقف الممارسات الشيعية الإسماعيلية في مصر وأغلق الأزهر الذي ظلت أبوابه موصدة قرابة مائة عام لكنه لم يضطهد الإسماعيليين أو الشيعة عموما، عكس ما فعل مع المسيحيين حيث منع تعيينهم في الإدارة أو التفتيش أو الخزانة وأمر بإزالة الصلبان الخشبية من فوق جميع الكنائس ومنع دق النواقيس وحظر سير مواكب الأعياد المسيحية في مصر. ولا يعنى هذا أن صلاح الدين لم يكن قائدا عسكريا فائق الرحمة ويرد في كتب رانسيمان وغيره من مؤرخي تلك الفترة المعاصرين والمتأخرين مثل ابن الأثير ووليام الصوري كيف أعتق صلاح الدين بعد دخول القدس في عام ١١٨٧م آلاف الأسرى والعجزة والنساء لعجزهم عن دفع الفدية بعد أن أهملهم بطريرك الكنيسة اللاتينية هيراكليوس رغم ثروته الطائلة التي اصطحبها معه وكان يمكن أن تحرر قرابة ١٥ ألف مسيحي. ورفض صلاح الدين ضغوط بعض المتشددين لتدمير كنيسة القيامة ووزع جنوده في أنحاء المدينة لمنع السلب والنهب.

كان صلاح الدين سياسيا فذا استعمل الكياسة والرحمة حيث محلها، والقسوة والشدة عندما تطلبتها مقتضيات عصره، ففي ١١٧٩م عندما حاصر واستولى على قلعة بيت الأحزان القريبة من صيدا أمر بقتل جميع الفرسان ورماة القوس الخيالة ثم دمر القلعة تماما. ورغم بعض الإخفاقات العسكرية برز صلاح الدين كقائد أسطوري مقارنة بمجايليه من الأمراء المسلمين ومن سبقوه ومقارنة بالأمراء الصليبيين الذين فتحوا تاريخا دمويا في تلك المنطقة عندما احتلوا بيت المقدس في ١٠٩٩م وارتكبوا مجازر بشعة ضد المقاتلين والمدنيين والنساء والأطفال حتى فاضت دماء المسلمين واليهود في شوارع المدينة. تلك العبقرية السياسية وشبكة العلاقات التي بناها مع بعض من كانوا من ألد خصومه هي التي ضمنت لصلاح الدين القدرة على الاحتفاظ بجيش قائم قدمه له أمراء عدة من الموصل وحلب ومصر ودمشق خمس سنوات وهو أمر غير مسبوق حيث كانت الجيوش تُحشد وتنفض موسميا. لم يكن إعادة بيت المقدس لسيطرة إسلامية ربما أضخم انجازات صلاح الدين، ويفوقها، إعادته مصر رسميا للمذهب السني وإطلاقه سهم الرحمة على الخلافة الفاطمية العليلة ونشر المدارس الدينية في مصر وبلاد الشام.

لم يترفع صلاح الدين عن مكائد السياسة وتحالف مع الفرنجة ضد منافسيه من أمراء الشام أحيانا، ومع إمبراطور بيزنطة اندرونيقوس كومنين عام ١١٨٥م ليقضى على أي تحالف محتمل له مع بيت آل زنكى أو مع الأمراء الصليبيين ضده. ومثله مثل كثير من عظماء عصره الذين لم يعدوا لخلافتهم جيدا نشبت صراع طاحن بين أبنائه وأشقائه فور وفاته واستمر تسع سنوات حتى ساد أخوه الملك العادل. ولأن ما قام به صلاح الدين لم يتمخص عن إنشاء إمبراطورية أو دولة مستقرة نسبيا أو مؤسسات تتقاسم السلطة مع رأس الدولة بشكل ما كما كان الحال في الإمارات الصليبية لم تمر سوى ٤٢ سنة كي يقدم الملك الكامل (ابن الملك العادل) القدس بنفسه للفرنجة في ترتيب سياسي مع الإمبراطور فريدريك في إطار مساعي الكامل لإضعاف منافسيه في الشام! وبينما كان فردريك يدخل القدس بمباركة الكامل كانت جيوش السلطان الأيوبي تحاصر دمشق من اجل خلع ابن شقيقه الملك الناصر. وهذا الملك الناصر ذاته بعد سنوات ليست طويلة سيعرض نفس القدس على الفرنجة بل ويقبل طرد رجال الدين المسلمين منها إذا تحالفوا معه ضد أبناء الملك الكامل!

تعانى كتابة التاريخ كثيرا التفكير الغائي أو الوظيفي حيث يعتقد الناظر والدارس للظواهر التاريخية أن خاتمة الحدث التاريخي تفسر بدايته وتفسر سلوك القادة والمؤسسات في الفترة السابقة على هذه الخاتمة وبالتالي يصبح تحرير بيت المقدس (أو إقامة إمبراطورية العرب) هو الهدف الأصيل لكل تحركات وسياسات صلاح الدين، وهو أمر توضح لنا أي دراسة جدية لوثائق عصره أنها قراءة غير منصفة لتطور الوقائع. وتعانى كتابة التاريخ التوظيف السياسي خاصة في منطقتنا المأزومة حاليا حيث يصير الصراع على حقائق ما جرى في التاريخ صراعا على رموز دينية أو سياسية يتعين توظيفها بشكل ما أو بآخر في الصراع المحتدم حاليا والذي تتفكك فيه أيديولوجيات ودول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فالصراع حول تفاصيل الفتنة الكبرى بعد وفاة الرسول بسنوات أو حول إنجازات صلاح الدين وقيمتها أو حول ما فعله محمد على أو عبد الناصر أو الأسد (الأب) أو صدام حسين ليس فحسب صراعا أكاديميا حول ما حدث في الماضي بل هو صراع سياسي معاصر بامتياز.

ليست تركة الأيوبي العسكرية والإمبراطورية هي ما تبقى، فالقدس نفسها عادت للصليبيين بينما ضرب صلاح الدين مثالا لكيف يكون المرء قائدا وزعيما عظيما في العصور الوسطي: مزيج متناسب من الاستعداد العسكري والحنكة السياسية والمرونة الدبلوماسية والإنصات لمن حولك وإيجاد حلول وسط لا تؤدى لتخلى فادح عن المبادئ. مات صلاح الدين وعمره ٥٥ عاما، مفلسا حتى أن مستشاره القاضي الفاضل تبرع بنفقات الكفن والدفن والقبر البسيط. وقبل أن يموت بفترة بسيطة أوصى ابنه الظاهر قائلا: “أحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد لها، فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم … وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء، وأرباب الدولة والأكابر، فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس ولا تحقد على أحد، فإن الموت لا يبقى على أحد، واحذر ما بينك وبين الناس، فإنه لا يُغفر إلا برضاهم، وما بينك وبين الله يغفره الله بتوبتك إليه، فإنه كريم.” ولعل هذه الوصية تصلح لحكام وزعماء ميليشيات وقادة كثر في عالمنا العربي.